المسخ ذو الوجه البريء| الفصل الأول

 المعزوفة الأولى "أنا آسف أمي، لكني لستُ بخير، والعالم كذلك"

.........
فلنبدأ اولى الحاني بعنوان "المسخ ذو الوجه البريء" ج1
.....................................
الثانية صباحًا... فصل الشتاء... بعد منتصف الليل بساعتين أو أكثر لا أذَّكر بالضبط! يقف بجوار سيارته وحيدًا، مُمِسكًا معطفه بيده، وأداة حفر القبور فِي اليد الأخرى، ينظر تحت قدميه بذهول، كيف وصلت به مُجريات الأمور لهذا الحد، لم يكن أحد يصدق، ولا هو نفسه صدق أن يحدث أيٌّ من هذا، ذَرفَ عِدة عَبرات مِن عينيه البنيتين؛ فقد آن الأوان حِين هَبط المساءُ عليه فجأة.. وبسرعة لم يكن يتمناها أبدًا.
صعدَ القمرُ فِي النصفِ المقابل له مِن الأرض، ولَمْ يلبث لحظة؛ حتى هجمت السحابات مسرح الأضواء المعلق فِي السماء؛ لتُخفي أثر ذاك القرص المنير، وما حوله مِن مصابيح، دخلت السحابات فِي هيبة معتادة، تتزاحم مع بعضها، وتتضارب بصرخات ذات نبرةٍ مريبةٍ، وكأنها فِي حرب مع بعضها يراها في نفسه.
البعض يحييه على فعلته بأضواء مشابهةً لها، والبعض الآخر يَصبُ دموعه سيولًا فوق رأسه أسفًا وأسىً، لم يستطع أن يميز، ولا يمكن التمييز إن كان الأسى على من فقد أم عليه، بينما الرياح تتأرجح يمينًا تارةً، ويسارًا أخرى، حائرةً مِن أمرها مِثله تمامًا، هل ما فعله كان صوابًا أم أنه الخطأُ بعينه؟
تارة تراه الرياح مذنبًا؛ فتثور فجأة؛ ليدب الرعب فِي قلبه؛ إثر هبوبها، وتارة تشفق عليه؛ فتداعب خصلات شعره، بنسمات مطمئنة، بألا تخف يا صغير، كنت مرغمًا على أي حال، فتصرخ سحابة بصوت يبث الرعب فِي ذلك المحرك الصدِئ أيسر صدره، كلا أنت مُذنِب.. أنت من بدأ هذه اللعبة، وهذه نتيجة أفعالك اللعينة، تبًا لك.
لم يكن قلبه صدِئًا هكذا يومًا، لكن أحيانا يخطئ البعض فِي تغليف المعادن جيدًا؛ فتصدأ سريعًا؛ فترد عليها سحابة أخرى، بقطرة جميلة وهادئة، تسقط وحدها على وجنته، رغم كل تلك القذائف المترامية من السماء تهمس فِي أذنيه "كان خطأ طفيفًا ولم تكن في وعيك حين حدث" أنهى ما كان يفعله؛ فقد كان يدفن رفيقة دربه الليلة.
أنهى دفنتهِ وأخذ سيارتهِ ليهرب من ذلك المكان المريب؛ خاشيًا من أن يراه أحد، فيدخل فِي متاهاتٍ لا طائل لها، الأسئلة التي لا يحبذ سماعها، خصوصًا وهو فِي تلك الحالة المزاجية...
يقود سيارته بسرعة عجيبة، وترتسم على وجهه علاماتٍ عجز علم النفس عن تفسيرها؛ فقد كانت امتزاجًا بين الحزن والخوف، فـالانتصار ثم الهزيمة، يزينهم الحب، وتتوج علامات وجهة السعادة، الشعور بالذنب، والاطمئنان منه، وهذا طبيعي.
ما ليس طبيعي: أن كل هذا يرتبط بحادثة الدفن تلك، ربما هذه بداية جميلة جديدة، وربما هو كابوس لا يمكن الخروج منه، فلا يخرج من تلك اللعبة التي دخلها إلا من يكون أقل وصف له، أنه بطل خارق، هل هو بطل! لا أظنه كذلك.
وأخيرًا قاطع معمعة الحوار الدائر فِي رأسه، صوت المكابح الذي ضغط عليها لا إراديًا، هو لا يعرف لمَ دهس الفرامل بهذا الشكل، لكن على ما يبدو أنه رأى وجهها مجددًا، أو سمع صوتها تحذره من اصطدامه بمرأب منزله؛ فقد فُوجئ حين نظر أمامه، فوجد نفسه قد وصل أخيرًا للمنزل.
فناء واسع فِي البداية، يليه منزل جميل من ثلاثة طوابق، وجراج فِي أيسر المنزل، من هي؟ لم يتعرف عليها بعد، هو بالكاد يمجد طيفها، ويراها كيانًا محرمًا مخالفته أو إغضابه، السمع فالطاعة، ثم التفكير فِي أوامرها، كيف يتواصل معها؟، يسمع صوتها فقط، أهي حورية فِي مخيلته الوردية أم جنية فِي عالم أحلامه؟ هو شخصيًا لا يعلم.. لكنها زارت غرفته عدة مرات متتالية مؤخرًا، آخر مرة قبل ثمان ساعات من الآن.
أطفأ محرك السيارة وظل جالسًا فيها، تنهد عدة تنهيدات متتالية.. كانت بطيئة جدًا؛ يحاول بها تجميع نفسه مجددًا، ثم نزل من سيارته متوجهًا لغرفته فِي الطابق الثالث بجوار الباب الرئيسي مباشرةً.
صعد الدرج على أطراف أصابعه؛ يخشى أن تستيقظ أمه لتوبخه كالمعتاد؛ ظنًا منها أنه يرافق أصحاب السوء، أو مدمن لإحدى الممنوعات...إلخ من هذه الأشياء الشائعة فِي بلاده، وما يزيد خوفها أكثر؛ أن والده فِي السفر منذ عدة سنوات؛ فهي تخشى أن يشجعه غياب أبيه على الانحدار بمستواه الأخلاقي.. لا تخافي يا أمي أنا لستُ مدمنًا.. فقط قاتلٌ لعين!
دخل غرفته واستلقى على سريره يستعيد أحداثَ يومه، فقد كانت كثيرة جدًا، تذكر أنه لم يصلِ الفجر، قام ليصليه أنهى صلاته وظل يدعو ويبكي فِي خشوع، بينما تنظر هي له بسخرية تامة تستعجب فعله، ترك مصليته وغاص فِي نوم عميق، أو بالأحرى غفوةٍ سريعةٍ؛ فقد زارته تلك الجميلة مجددًا وكانت آخر زيارة لبيته، فعلى ما يبدو أنه فعل شيئًا ما أغضبها.
"لا أعلم ما يحدث بالضبط، لكني أشعر برهبةٍ غريبةٍ.. لا تبدو الأمور بخير أبدًا؛ فقد أتاني ذاك الطيف مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن صوتًا، بل فتاة غاضبة مرعبة نظراتها رغم أنها فاتنة المظهر، إن حدث لي شيء فأتمنى أن تعتنوا بأمي جيدًا؛ فليس لها سواي.
زاهر"
كانت هذه آخر كلمات نزفها عقله في مذكراته
..........
(بعد يومين)
«ملخص تقرير الطب الشرعي»
(تمت جريمة القتل فِي فترة تتراوح ما بين السابعة والثامنة صباحًا.
بالنسبة لعملية القتل فهي كالتالي: كسر فِي العمود الفقري، اقتلاع العين اليسرى قبل موت الضحية بساعة كاملة، اقتلاع بعض الأظافر، سلخ الجلد بعدها، يليها سبع طعنات فِي البطن بسكين طوله 7 سم.. الطعنات كانت بزاوية 60 درجة للأسفل، وبعدها غرق فِي إحدى براميل مياه المصنع الذي وجدت فيه الضحية تقريبًا.. بعيدًا عن الضربات التي ملأت الجسد كلها، وفي النهاية قُطِّعت الأعضاء الداخلية وتُرِكت بجوار جثة الضحية)
محمد: مفيش أي دليل ناخده خيط لينا؟
أحمد: للأسف، الحاجة الوحيدة اللي ممكن أفيدك بيها، إن القاتل دا شخص محترف ودي مش أول مرة ليه.. وضيف على كدا إن أسلوب التعذيب دا يدل على الانتقام.. احتمال يكون القاتل قصده يوصل رسالة بشكل ما
محمد: ازاي؟
أحمد: أسلوب زي دا وشكل الجثة دي بيدل إنها خدت وقت تعذيب طويل، أربع ساعات على الأقل، وكمان القاتل اختار يوم يكون المصنع إجازة، فكونه يسيب الجثة كدا فِي المصنع رغم وجود وقت لإخفاء الجثة، شيء غريب شويتين، غير إن كل الأعضاء المقطوعة مجمعها جنب الجثة.
محمد: مش عارف ليه حاسس إن اللي قتل الشخص دا، هو اللي قتل أبو عبد الرحمن!
محمد: أبو عبد الرحمن مين؟
أحمد: عبد الرحمن الواد الهكر اللي كان معانا فِي الجامعة دا
محمد: اه افتكرته، بس ليه بتقول كدا
أحمد: هي اه مش نفس تفاصيل قتل الجثة بس نفس الأسلوب، لو لاحظت الموضوع مش انتقام بس، الموضوع فيه متعة للقاتل دا.. بيستمتع بقتلهم بالشكل دا
محمد: جايز، مش عارف... هتعمل إيه دلوقت؟
أحمد: لسه والله مش عارف...
محمد: خير إن شاء الله.
أحمد: خير.
...........
فِي صباح اليوم التالي
كل حسب العرف يسير، وبالمثل سيذوق نفس المصير
كل حسب العرف يسير، وبالمثل سيذوق نفس المصير
كل حسب العرف يسير، وبالمثل سيذوق نفس المصير
(استفقت من النوم على نفس تلك الكلمات المبهمة لذاك الحلم العجيب، بحثت كثيرًا فِي كتب التفسير وعلى الإنترنت وغيرها، لكن لا أحد يفهم معنى ذلك الحلم الغريب ولا حتى صديقتي "مارسلين"؛ لذا قررت كتابة مذكراتي اليومية بما فيهم ذاك الحلم، عسى أن يحدث شيء أخشاه، ويكون تحت مسمى المجهول، أمسكتُ مذكراتي وبدأتُ بكتابة أولى صفحاتي، ربما سأتحدث بصيغة شخص غيري، إنه أنا أيضًا، لكن ليس أنا الذي أحبه)
الصفحة الأولى: صفر، صفر، واحد
أولى سطوري، وأول نزيف قلم على جسد مذكراتي
السطر الأول: جملة في أوسط الصفحة (جملة استفتاحية)
بسم الله الرحمن الرحيم
السطر الثاني: مسافة كلمة بداية جديدة
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت وما أزالُ مِن الظالمين؛ فغفرانك يا رب ورحمتك، وعذرًا لأني مُقصر فِي حق الدين.
لكن ما ذنبي؟ ولدتُ أو بالأدق ترعرعتُ فِي عائلةٍ محاطًا بالمجرمينِ؛ فأصبحت مثلهم، وربما ذاك مصير نسلنا ليوم الدين، لكن أعدك يا رب، أعدك، بكل ما أوتيت من قوة، وعد يتجدد مع كل سحبة شهيق ونفخة زفير، ومع كل موقف عسير يليه يُسر كثير، بأني سأقاوم..
سأقاوم بكل أسلحتي، قوتي، لساني، مخالب حروفي وأنياب دمي، حتى لو تطلب الأمر أن أعصيك من أجل رضاك.. بر الوالدين واجب أعلم، لكن إن لم يُقتَلوا سأُقتل أنا، وأنت أكثر من يعلم أني لا أهاب الموت، لكني أخشى لقاءك وأنا أرتكب كل يوم كبيرةً مختلفة.
أذى نفسي، زنا، قتل، سحر، عذاب جسدي، خمر، فعلت كل شيء وأنت تعلم، لكني أخبر مَن لا يعلم؛ لأكون عِبرة على الأقل.
وأقسم أني هكذا لأني عودي اشتد على يد تلك العائلة المريبة، عائلة "ميدنس" حيث راحة بالنا وسكينتنا فِي سماع صرخات الضحايا، وهي تقطع أوصالهم ونحن نجرّبُ عليهم أساليب تعذيب لم يقم بها رهبانَ العصور الوسطى، ولا حتى فلاد الثالث.. مصاص الدماء "دراكولا".
(نقطة بعد فقرات بينها فواصل، وانتهت الصفحة، الصفحة الثانية: صفر، صفر، اثنان)
"بطاقة تعريفية"
الاسم: ................
الشهرة: ...............
لقب أُجبَرَتُ عليه: ديمون
السكن: بعيدٌ عن أعين الناس
المهنة: قناص محترف، وقاتل مأجور، وساحر من الدرجة الأولى
السن: سنوات لم أحصها؛ لأني لم املكها أصلًا
العائلة: ميدنس (أب وأم وأنا وأخي الصغير وأختي سابقًا، بجانب المنظمة الكاملة التي تحت سلطتنا، وجيوش من العالم السفلي)
(خط فِي المنتصف وصفحة جديدة: صفر، صفر، ثلاثة)
لا أعلم من تكون أيها القارئ ولا فِي أي عام الآن، فربما أنت تقرأ تلك المذكرات وهي لا تحتوي إلا على بصمات قلمي فِي تلك الصفحات الثلاث، وربما أيضًا أنت تقرأها على هيئة مجلد كامل مُلطَخ بأحداث يومي، لكن ما أنا متأكد منه أنك ستفقد ثقتك بالعالم بأسره بعد أن تعلم حقيقة عائلتي الكاملة.. وربما لن يسعني الوقت لأخبرك عنهم؛ لذا دعني أتحدث عن نفسي أولًا ولنرى عائلتي مرةً ثانية.
.......
صفحة جديدة بعنوان "يومي الأول"
استيقظت على حلم متكرر منذ شهور، مضمونه أني فِي ساحة إعدام، ويوجد قوم كثيرون يرتدون زيًا أسودَ يغطي من أطراف أصابع أقدامهم حتى وجههم، ربما لم يكن يغطي وجههم لكني لا أذكر ملامح أحدهم، لا أعلم ألم تكن واضحةً بالحلم أم أني نسيت نتيجة توتري من الحلم بعدما قمت.
ما أذكره أنهم كانوا يرتدون زيًّا ما، لا أعلم اسمه كان كعباءة أو شيء يشبهها، لونها أسود أي لا قمصان ولا بناطيل وكأنهم مثل الرهبان أو ما شابه، المهم.. كانت الساحة ممتلئة وكأنه نهائي لأحد دوريات الكرة الأوربية، وجميعهم يهتفون بنفس الهتاف:
"كل حسب العرف يسير، وبالمثل سيذوق نفس المصير"
وهم يهتفون ذاك الهِتاف، دخل أحدهم يجرجر شخصًا خلفه، كان وجهه مُغطى بكيس أسود، وكان مكبلَ الأيدي والأرجل، على ما يبدو أنه أذنب فِي شيء ما، لا أدري ما ذنبه لكن ما أيقنته أنه ذنبٌ لا يُغتفَر.. وُضِعَت رأس ذاك الشخص تحت المقصلة لتقطع رأسه، وبعدها أمسكها أحدهم ليرفعها عاليًا، وقال: هذا جزاء من يخالف قوانين الجماعة، كنتُ السياف في رؤياي لكن حين كُشفَ عن رأس المحكوم عليه! كان رأسي أنا.. استفقت فجأة.
#المسخ_ذو_الوجه_البريء
#الكاتب_الرمادي

الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم