مرحبًا يا صديقي، اشتقتُ لك، هل اشتقت لي؟ أنتَ الوحيد الذي يسمعني في صمتٍ تام، ولا أخشى على نفسي حين أكشف لك بعضًا مِن أسراري، حين تضيق الدنيا سأخبرك33، "لقد كانت مجرد رواية، ثم أضحك وأتحدث بحماس مستمتعٍ قائلًا: هيه لا تبالغ، حبكتي ليست بتلك القوة، ثم أضحك بمرح وينتهي الأمر، على أي حال لا أحد سيصدق.
تظل معي وكما اِعتدنا
لستُ بحاجة لإخبارك أني حتى وإن قلتُ لك أننا الآن في الحاضر، فهذا ماضي.
بالنسبةُ لكَ، هذا كان حاضري حينها وماضيَّا أيضًا، ولا
أعلم لربما أنتَ تقرأ أوراق رجلٍ قد رحل الآن، لذا دعنا مِن التكليف ولندخل في صلب
الموضوع، لسنا بحاجة لفتح الأبواب فكما تعلم نحنُ هنا أشباح، لا نُرى، ولا نستطيع
تغيير الأحداث، وكأننا في معضلة السفر عبر الزمن، إن سافرنا.. فكن جزءً منها دون
الحاجة للتكلف، وكأنه عالمك.
نحنُ الآن على أطرافِ
أرض المجهول في منزلٍ بسيطٍ جدًا فوق حانةٍ صغيرة، لا قصور هنا لا منازل فخمة ولا
حياة الأثرياء، فقط منزل بسيط، تملأه الكتب، وعدد واحد فرد يسكن هنا مؤخرًا، عجوزٌ
في جسد شاب، لا هذا ليس تعبيرًا مجازيًا، الجالس هنا هو "ديمون[1]"
بدأنا التعجبَ مجددًا، يؤسفني أن أخبركَ وبكامل الآسي أن ما جال في خاطركَ صحيح؛
نعم بُدِلَ حاله فجأة، من الأثرى في العالم، إلى مُجرد رجلٌ بسيط يحيا حياةً
روتينية سخيفة، يحياها رغم كل ما يملك من أموالٍ لا طائل لها، قوةٍ لا مواجه لها
ونفوذ غير منتهية، رغم كل ما يملك، يحيا حياةٍ روتينية قاتلة[2]،
لا يقوى على تخطي تلك المرحلة، سأحرق الأحداث أعذروني.. ما يردعه عن ممارسة كل ما
يقوى عليه، وكل ما يريده هو "بعضٌ من الصداع!" لكن هل تعلم ما
الغريب في الأمر حقًا؟ هو ذلك المشهد القادم، كما أخبرتك حياته روتينية وأنا
أراقبه منذُ زمن، بعد أن ينهي تلك الكأس، سيجلس على الطاولة بعد طباعة المزيد من
الصور بحجم أوراق اللعب ثم يجمعهم جميعًا... أخبرتكم.. دعونا نرى بأنفسنا...
أنهى ديمون طباعة الصور
الجديدة ثم جلس على مكتبه بجوار الكثير من الكتب التي بدأ في قراءتها واحدًا تلو
الآخر في الحانة، وفي المنزل بعد مشاهدةِ الصور التي كان يقوم بتصويرها قديمًا..
مسك ديمون أوراق اللعب وبدأ بخلطها.. اقتربوا قليلًا.. هل هذا هو! اللعنة نعم هو،
ظَهرُ أوراق اللعب جمجمةٍ يتوسطها حرف D[3]، أنهى خلطها ثم وضع الأوراق صوبَ عينيه، وهو
يقول: زيدوا من حقارتكم وتمادوا كيفما شئتم، فمن المؤكد أن "المسخ ذو الوجه البريء"
سيعود مجددًا، ولربما يكون "المطهر" هذه المرة.. لا أعلم مَن هو
وكيف يكون، لكنهم لا ينفكون عن المناداة بهِ في أحلامي، لربما هو مَن سيخلصني مِن
كل هذا أيضًا، ربما.. مهلًا لحظة، ديمون يخدعنا، هو يعرف مَن هو، لقد كشف المطهر
عن نفسه قبل أن يعود لهنا مجددًا؟
تحرك تجاه مكتبه ليقرأ في كتابٍ حجمه كبير
عنوانه "مدرسة الانتحار الثانوية[4]"
كان هذا الكتاب هو مُجمع رسائل الانتحار التي قام أهل أرض الانتحار السنوية[5]
بكتابتها، هم أو هو من كتب على ألسنتهم لا يهم، ومنذُ زمنٍ طويل بعد كل هذا الخمول
والندم، يقرأ كل يوم رسالة أحدهم ليُذكر نفسه لِمَ يحدث معه كل هذا..
هل تعلم حين
تضع كل جهودك، وطموحك، وآمالك، وآمال مَن حولك على عاتقك، وتسعى بكل ما أوتيت مِن
قوة في سبيل تحقيق هذا الهدف، ثم فجأة ومِن العدم يأتي أحمقٌ لا يستحق هذا المنصب
مطلقًا يتسلق فوق كتفيك ويأخذ مكانك، ثم وبكل وقاحة يلقيك مِن فوق الجبل الذي
تسلقته أنتَ بدون أدوات، كنت تثبت نفسك فيه بأظفارك أثناء التسلق وفجأة بعد أن
تنتهي وفي حين لحظة المجد، تجده هبط مِن فوق الطائرة ليسرق الأضواء منك، ليس هذا
فقط بل وينفي جهودك وينكر حقيقة جهادك..
هذا ما حدث مع ذلك الطفل بالضبط، كان الأقوى الأفضل جهادًا في مرحلته التعليمية،
مئاتٍ مِن العقبات يتخطاها ولا يبالي سهامًا كثيرة، ووابلًا مِن الرصاص، وأبابيلًا
مِن الطيور تلقيه بالجمرات، بينما هو فقط يصمد ينظر لهدف يراه يقترب ويتحقق، كثيرٌ
مِن الجهد في هدف ساذج صغير، رقم يحصل عليه على ورقة لا قيمة له مطلقًا لكنها
الحياة، ومصيره يتعلق بها، ثم فجأة تحدث فوضى في لجنة الامتحان ولا يدري كيف يتم
تبديل ورقته في اللحظة الأخيرة، لا يعلم كيف لكن شيئًا ما حدث جعل ورقة الإجابة
تحوي اسمه وهي في الأساس ورقة أحمق، وأغبى أصدقاءه، وأكثرهم تضييعًا لوقته، وورقته
نفسها يملكها هذا الفتى مع اسمه، وكأن هناك روحًا خفية بدلت الأوراق الداخلية في
آخر دقائق الامتحان.. تكررت تلك العملية مرة صوبَ عينيه، والباقي بعد تسليم
الأوراق، ولا يدري أحدٌ كيف حدث هذا الأمر..
حين أتى يوم
النتائج صُدم مِن نتيجة جهوده التي ذهبت هباءً، طلب مراجعة الورق، طعن فيه، ليوقن
أن تلك الأوراق ليست أوراقه هو الوحيد الموقن بهذا.. لم يصدقه أحد، هذه درجتك يا
غلام، أنت راسب، وبينما يبحث عن شيء يعيد عقله له، لم يجد سوى الكثير مِن الأفكار
التي تُدس إلى عقله لكي ينتحر، ومع الضغط كتب رسالته وذهب.. وقد كانت هذه هي
رسالته
"ما الدافع الذي يجعلني لا أنتحر؟"
نعم.. لقد قرأتَ الجملة صحيحة، أنت الآن تقرأ وريقاتِ شخصٍ سينتحر بعد دقائق
معدودة، فإن كنتَ تقرأ هذا، فمن فضلك اِدعو لي بالرحمة، ردد معي "رحم الله
امرءًا خذله الجميع، فذهب شخصيًا إليكَ ليشتكيكَ يا الله، وليس بنادمٍ على
الرحيل"
لِمَ أندم.. أفنيتُ عمري في رضى عائلتي، ولم يرضوا، فجددتُ عمري بعمرين، أحاول
استقطابهم حولي ولم يأبهوا، فجددته ثالثًا وكنتُ قطًا بسبعة أرواح، وكانوا ملك
الموت لأرواحي يسحبونها دون عناء، وكأنهم مثله سحبها هو مهنتهم، وكأني أذنبتُ في
حق شيءٍ مقدسٍ وكانوا عقابي وكنتُ عقبتهم.
أنا لم أفشل، ما دمت حيًا فأنا أحاول، لم أخسر الحرب بعد أمي، فلِمَ كلّما نظرتي
لي قلتِ بعينيكِ "يا خيبة أملي، بأي حقٍ تمتلكُ العزيمة لتقاوم؟" نحرتني
ولم ترِ دمي يا أمي، وأبي العظيم في عيني، ذهبت عظمتهُ، لم تعد غايتي أن أراه
مبتسمًا، حلمي بات أصغر..
فقط أردتُ أن أُثبت لكم شيئًا ما، فقط أردتُ أن أخبركم "أنا أستطيع" لم
أدخل الكلية التي تريدها أبي أعترف، لكنها بشكلٍ ما لم تكن تلائمني، ولم أقرر أنا
ذلك، الرب قرر، فأي معارضة سنقع جميعنا في المهالك، فَلِمَ أسخط وأصاب بشعورِ
الحسرة؟ مِن فضلكم، إنها ليست نهاية العالم..
تعلم ماذا؟ من يهتم؟ لم تهتم لحياتي يومًا، فلِمَ أشكو لكَ سخافتي؟
فقط أردتُ أن أخبركَ عن الحروبِ التي خُضتها، وهي في الأصل شجاراتٌ صغيرة، وهذا
عينُ القصيد.. كل ما في قلبي من أسي الآن، ما هي إلا صغائر الأمور، تراكمات فوق
بعضها لتصنع جبلًا على عاتقي يكسرني يحطمني، لم أعد أقاوم، وحين حاولتُ أن أشكو...
كل صغائر الأمور، لم يكن منطقيًا أن تستمعوا.. فقط فشلي في تلك المرحلة الثانوية
الآن، هو سبب وجيه، وربما مفسر أمام الجميع من حيثُ سطحيتهم لانتحاري..
أنا لم أنتحر من أجل شيءٍ تافهٍ كهذا، أنا فقط راحل لأخبر ربي أن يهبني هبة
التعبير عما بداخلي، ويمنحني عمرين فوق عمري لأشكوا لكم شعوري.. مشاعري، لا أعلم
لكن.. أنا فق راحل..
كرهتموني ربما، لكن ما أنا مُوقنٌ منه
أنّي أحببتكم.. أمي لا تبكي من فضلك عليَّ، لن يُعيد بكاءك شيئًا، اِفعل الصواب
أبي، وفر وقت حزنك في التفكير، كيف تعامل إخوتي، كيف تعوضهم عما فقدتُ أنا، أمي
مجددًا لا تنسي أن تُعدي الطعام في يوم جنازتي لإخوتي، لا أريدُ أن أكون سببًا في
نومهم شاعرين بالجوع.. إخوتي، قد لا تفهمون ما أقوله الآن، لكن لا شيء يستحق..
صدقوني، إياكم أن أجد أحدًا منكم عند الله يبكي مثلي ويقول ربي أنا انسحبت، أنا
انسحقت..
وأخيرًا ومجددًا، عندي الكثير مما أود أن أخبركم به.. لكن لا أعلم كيف أعبر، وربما
تستيقظين الآن أمي لعلة ما، لصلاة الفجر مثلًا فتهلكيني أكثر ظنًا منكِ أنكِ بفعلك
هذا أنقذتني؛ لذا لا وقت لدي.. أخيرًا.. أحببتكم.. اِدعو لي.. وداعًا."
وإن كنتَ تتساءل عما
حدث، فقد كان ديمون هو السبب كان يرتب لموت هذا الفتى، منذُ زمنٍ تلاعب في كل شيء
هو ومارسلين، استهدفوه تلبية لوعيده لأحد سكان تلك الأرض بأن اليوم قريبٌ على ابنك
لكن انتظر، وقد اختار تلك العائلة كغيرها من العائلات الكثيرة بعناية، هؤلاء الذين
يهاجمون فكرة تلك اللعنة الملقاة على هذا المكان، يختار الأتقى إيمانًا والأكثر
علمًا، كان يستهدفهم بدقة.. وها هم تحولوا لأسهمٍ يستهدفون خلايا عقله بنفس الدقة
ليتلفوها...
أغلق الكتاب ثم نظر له
قليلًا، تنهد بعمق ثم أخذ أوراق اللعب، ذهب لسريره ليستلقي عليه أخيرًا..
" في وحدتي أبحر بمركبي، والموج يعلو،
سكِّير أقود مركبي، ومِن فوقي صخور تهطل، قبطان أنا بلا وجهة أسير، والرياح بمركبي
تلهو..."
لا أعلم معنى تلك الجملة حاليًا لكنه كان يرددها
عدة مرّات أثناء نومه.. في الحقيقة، أنا أعرف
ماذا تعني، لكن لم يحن الوقت لتعرفوا شيئًا كهذا حاليًا؛ لذا زد عليَّ صبرًا يا
صديقي.. أما ما يتعلق بالمسخِ والمطهر وغيره فلا تنظروا لي لم أفهم شيئًا بعد
فنحنُ هنا في الحاضر، وهذا الفصل من حياته، لا أذكره، لكن هناك طريقة ستخبرنا بكل
شيء.. لكن بها عيبٌ صغير، أن تقنية تلك الطريقة تتوقف على ما تراه عيناه؛ لذلك
سنعرف كل ما يعرفه هو مما يراه في تلك اللحظةِ فقط.. سأخبرك ما سنفعل، سنركض بسرعة
تجاه عينيه ونقفز بداخلها، هذه أفضل طريقة لننهي مرحلة الجهاز العصبي المركزي[6]
بسرعة تاركين في الأسفل النخاع الشوكي مواجهين في الأمام الدماغ.. هيَّا اقفز
معي..
كما ترى أنت الآن تسير مع الصورةِ التي يراها حاليًا، نحن الآن في الجزء الخلفي من
العين، منتقلين على طول الأعصاب الشبكية مُدمجين مع الضوء كحزمة واحدة.. ها قد
وصلنا للدماغ، اِقفز الآن قبل أن تنقلب الصورة عائدة من الدماغ إلى العين؛ كي
يرى..
بما أننا وصلنا لهنا فقد أنهينا نصف المسيرة، الآن نحن بصدد رؤية، أو لا نرى نحنُ
نعلم، أننا لدينا ثلاث اختيارات لندخل في أحدهم كالخيار الصحيح، الدماغ الخلفي،
الدماغ المتوسط، والأمامي.. كما نعلم لسنا بحاجة للخلفي أو المتوسط؛ لذا من حسنِ
حظنا وجهتنا سريعة، الدماغ الأمامي، لكن يبقى السؤال هنا، أي مسلكٍ سنسلك في
الدماغ الأمامي؟ اللوزة العصبية، أم الحصين، أم القشرة الجديدة، دعونا نرى..
الحصين هو الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ، فهو يقوم بصنع كلٍ مِن الذاكرة
التقريرية المرتبطة بالحقائق والأحداث اليومية، وذاكرة العلاقات المكانية المرتبطة
بالمسارات والطرق، ويتم فيه تحويل الذاكرة قصيرة المدى إلى ذاكرة طويلة المدى..
لكن اللوزة وبالرغم من الدور المهم الذي تلعبه في المشاعر والتحكم بالخوف، إلا
أنها تعد الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ في استرجاع الأحداث المسببة للخوف،
وهي الجزء المسؤول عن توضيح الذاكرة العاطفية.
ففي حين قيام الحصين بصنع الذاكرة التقريرية تقوم اللوزة بتنظيم هذه الذاكرة
المرتبطة بالمشاعر، إذ إن إثارة المشاعر بأشكالها المختلفة يساعد على تحفيز عملية
تحسين الذاكرة.
وبما أن حديثه كان يحملُ شيئًا من الغضب، إذًا فقد علمنا وجهتنا، هيّا بنا إلى
اللوزة يا شباب وأخالكم عرفتم الطريق من شرحي السابق، لذا أسرعوا، ليس لدينا اليوم
بطوله.
هل تعلمون، هناك شيءٌ ما
غفلنا عنه، هو أن ننظر في الصور قبل أن نخوض المغامرة، فقد كان بإمكاننا البحث عنها
جميعًا في الحصين بدل مِن البحث عما يراه فقط في الوقت الحاضر عن طريق اللوزة.. لا
يهم.. ها هي إشارات تلك الصورة اِقفزوا معي لننتقل للحدث الخاص بها.
ما هذا المكان، لم آتي لهنا من قبل لكن الطابع الأول عن هذا المكان، أننا الآن في منطقة عشوائية، لكن لِمَ يبدوا المكان خاويًا... مِن أين أتى كل هذا الكم مِن الأشخاص فجأة.. عشوائية الذاكرة اللعينة في إسقاط الأحداث.. اللعنة، ما هذا التجمع!
[1] كان عمل عملية من الجزء اللي فات وشارح
تفصيلها مضمونها إنه هيعيش في جسم شباب لحد ما يموت
[2] لا يملأ عينيَّ كنزٌ، ولا لمَرسي مركبي
دول، وكأن عقلي عن كل شيء جميل، بقفل من فولاذ أُقفَل (ستجد الكثير من تلك الجمل
في الهامش، اقرأها ولا تشغل عقلك بها ستفهم المعنى في النهاية
[3] كان شعاره في الجزء السابق
"رواية حرب باندورا" كان بيرميه في مكان أي جريمة بيعملها، سواء هو أو
فريقه اللي يبيتضمن ولاده وكل سكان أرض المجهول.
[4] كتاب جديد يتم التحضير له، مرتبط بالقصة
من بعيد.. هيكون تكمله صغيرة كدا عبارة عن مجموعة قصصية ونصوص.. ودا مش خطأ إملائي
مش قصدي ثانوي، أنا سنوي اللي هي مشتقة من سنة
[5] الأرض دي هي أرض المجهول زمان، هتفهم
قصتها قدام شوية متقلقش، رغم إني أتكلمت عنها في الأجزاء اللي فاتت برضو.
[6] أنا بس حبيت أستغل الفرصة في إني أنقلك
معلومة، ومش هكررها كتير أو يمكن تاني متقلقش، السرد هيكون أكثر سلاسة زي ما
تعودنا قدام شوية صغيرين.