حرب باندورا - الفصل الثامن

 (بعد شهرٍ من ذلك اليوم...)

-[1] من غير ما تفكر هتقبل، وأنا بساعد البيت بتاعكم والدتك مردتش تاخد أي مساعدة؛ فعرضت عليها شغل بصيغة تاني بمرتب حلو يسند البيت، وجامعة أختك سارة، أنا اتعرفت على العيلة كلها واعتبرتهم أهلي، وأتمنى تعتبرني أخوك إنت كمان.
أبوك كان العقبة الوحيدة في القصة، مكنش قابل أي مساعدة إطلاقًا ولا كان قابل إن والدتك تنزل شغل، أنا أقنعته بعد جهد إنه يوافق.. مكنش ينفع أعرض على والدك ينزل معي شغل بسبب إنه ممعوش شهادة؛ فكان هيحس إني مش مجرد شخص محتاج عاملين، بس كان سهل أخلي والدتك تنزل شغل لأنها معاها شهادة ولو متوسطة.. لمَّا تخش الشركة وتشوف العمال هتفهم لوحدك.
= ازاي؟
- هتلاقي مفيهمش واحد معاه مؤهل عالي، كلهم موهوبين وحرفيين، حالهم كان تحت الصفر، جبت مهندسين شاطرين يفهموهم الحاجات اللي نقصاهم وبيقبضوا كلهم بالدولار، الحِرَفِين الميكانيكي والسمكري والحداد الناس دي معاها خبرة مش مع المهندسين، هما بس ناقصهم حاجات لازم المدرسة تعلمهالهم، وأنا بعوضلهم النقص دا.
ليه بعمل كدا؟ الموضوع يتعلق بالولاء، الناس اللي شغالة دي بتكن ليا الولاء بشكل متتخيلهوش.. مستحيل حد فيهم يغدر بيا، أنا مبجبش عمَّال، أنا بجيب أهل فهمت!
معي فلوس كتير لدرجة اني لو صرفت كل يوم 100 ألف دولار، هفلس بعد مية سنة، وممكن لا، تخيل...حسابي في العملات الرقمية يكفي دولة صغيرة معونة كاملة من كله.. بتعامل بأكثر من ثلاثين عملة رقمية غير سلسلة الشركات وغيره كتير، علشان كدا بحاول اصرف جزء منها بشكل يرضي ضميري..
بصرف على اللي بشوفه.. بالنسبة لي أفضل إن العالم كله ينتهي ولا أدي جنيه لجمعية معينة تصرفه عليه.. بصيغة أو بأخرى هكون بشارك بشكل غير مباشر في جريمة إنسانية كبيرة، وجهة نظري مش صح بنسبة كبيرة أنا عارف، بس لو حبيت تساعد البشر متوليش الأمر للبشر.
الجمعيات الخيرية الصادقة، هتصرف الفلوس في أكل، شرب، لبس، مشاريع بسيطة بأجر هيستفادوا منه... الخ.
هما بيدوا مسكنات علشان اللقطة، والقليل منهم علشان ربنا، بس لا يزال الطابع البشري جواهم؛ العاطفة دايمًا تتضارب مع الحل الصعب، معالجة مريض من المرض، أفضل ما أدي مسكن لمليون مصاب، مين عارف مش يمكن اللي عالجته دا، هيقدر يجيب علاج للمصابين التانيين، مش يمكن مرضه هو الحاجز الوحيد اللي بينه وبين القمة.. بين سلامة جيل!
(كان جالس في مكتبه للمرة المليون يتذكر حديثه مع صديقه "عز الدين" وفي كل مرة تغرورق عيناه بالدموع ويبكي كثيرًا، لا يفهم، لم يفهم ما حدث في ذاك اليوم لِمَ وكيف حدث، وأين ذهبوا ولِمَ اختفوا فجأة ومع أختفاءه ظهر كل هذا الحشد من الناس حوله، وماذا تعني تلك الرسالة.. عشرون عامًا يقرأها كل يوم ولم يفهم معناه، هو يُنفذ ما تيسر منها فقط، هو سندًا رئيسيًا لعائلة ميدنس بشكلٍ خفي، كلما سقطت العائلة، شد عمادها مجددًا وثقلها بشكل أكبر هذا ما يمكنه فعله وهو قليل، ففي الأخير المال حقًا لهم، لكنه لا يستطيع منحهم إياه.. كان ينظر لصورهم سويًا وهو يتذكر آخر حديثٍ دار بينهم قبل أن يموت تحديدًا آخر كلماتٍ قالها صديقه لقد قال: متى يموت الإنسان يا ترى؟ حين تصعد روحه للسماء؟ أم حين ينام؟ حين يفقد وقوده من طعامٍ وماء، أم حين يقع في الهيام؟ ام في كلاهما؟ ففي النهاية، الموت هو تجمد العقل الواعي لا أكثر، فمن يدخل في حالة أغماء شديدة هو ميت بجسدٍ ينبض.. وفي مقولةٍ أخرى حين يتجمد القلب عن الشعور، وهذا حي كجندي في معمعة الحرب بذراعٍ مبتور.
لكن ماذا وإن كان الميتُ حي؟ تحييه ذكراه جيدةً كانت أم سيئة لا يهم، المهم أن الجميع يذكره وكأنه بينهم، فهناك من يحيا في مماته ومن يموت في محياه، وكلاهما يعتمد على أن يتذكره الناس؟ هتلر وغاندي، كلاهما حفرا تاريخهما بأخلاقهم وفلسفتهم، فلم ينساهم أحد
وهناك حي يحيا في ممات.. فقد شغفه تجاه الحياة، فتبلد أمله ورغم أن قلبه ينبض فإن ذاك الشخص قد مات
وهناك من جمع شتى أنواع الموت وهو حي، تحييه ذكراه ويحيه قلبه ويحييه عقله ويقتله الزمان في حينٍ ما.. السؤال هنا، هل وأنت تقرأ هذه الرسالة "هل أنا حي، هل أنا ميت، وأي نوع فيهم أنا الآن؟"
- أقرأ تلك الرسالة؟
= نعم تقرأها أنا لا اتحدث عن الآن، حين تكون في المستقبل فأنت تنظر للماضي، وهذا يعني أنك تقرأ الحاضر بنفس التبعية..
فاق من طيات الماضي وهو يضع الصورة مكانها وهو يقول: مش عارف، مش عارف يا عز، أنت أختفيت فجأة أنت وأختي آخر حاجة فاكرها اليوم اللي ضربتنا بالنار فيها

فلاش باك

أحضر "عز الدين" مسدسه وجمعهم على الشاطئ وبدأ يتحدث: مش عارف أبدا منين بس بجد أنا بحبك أوي يا إسراء، حبيت كل حاجة فيكِ، طفولتك وأخلاقك، احتواءك ليا وصبرك معايا، بس أنا مضطر، حبيت كل لحظة عشناها مع بعض، كل ثانية، وأنت يا مصطفى كنت ليا أكتر من أخ بجد، أخويا الوحيد اللي رغم كل اللي مريت بيه من غدر مخفتش تغدر بيا ابدًا، حبيتكم كعائلة، حبيتكم من كل قلبي بجد، وأنتِ يا سارة كنتِ أختي، مكنتش بقصد أضايقك لكن أنا كنت شايف حاجة أنتوا مش شايفينها.
نظر لإسراء ثم عانقها بقوة وتحرك خطوتان للخلف وأخرج مسدسه، ظنوا أنه يمزح؛ فقد كانوا في ذهول ولم ينطق أحدهم؛ لأنه لم يمنحهم الفرصة وأفرغ ذخيرته على رؤوسهم ثم أطلق رصاصة على رأسه وأنتحر، ظهر بعض الرجال سريعًا وكان هناك الكثير من الذعر في الشاطئ بسبب صوت الرصاص، أخذ بعض الرجال جثثهم واختفوا فجأة..
هذا ما رآه الحاضرون قبل هروبهم، لكن ما حدث في الحقيقة، أنه أطلق النار على رؤس كل من إسراء وأخته ساره، وعلى نفسه، لكن مصطفى كانت الطلقة بجوار قلبه.. مما جعل كل من شاهد تلك الحالة يحتار، أو يظن أنه وقع تحت تأثير الذعر فوجد الرصاصات في رؤسهم اجمعين، مرت شهور وتعافى مصطفى، ولم يتم العثور على جثث الباقية، ولم يتم إيجاد تبريرًا لِمَ فعله "عز الدين"
كل اللي فاكره إنك ضربت علينا نار.. الدم ملى المكان، وأحنا متنا، أختي ماتت قدام عيني وأنا مت برضوا، بس الغريب إني فقت في المستشفى، اوضة العمليات، المفروض إني فقت بعد انتهاء العملية وإني نجوت بإعجوبة.
بس الغريبة إني محستش بيها كرصاصة وبارود، أنا حسيت إنها حجارة أو حاجة خبطتني عادي بس مش شيء مؤذي، بعيد عن إني مشوفتنيش في المراية بس كان أنا في كينونة نفسي، فكرت إني كنت بحلم بس اتفاجأت إنكم أختفيتم ومحدش يعرف عنكم حاجة، مفيش حاجة تدل على إنك حي ولا ميت، حتى رسالتك والتعليمات اللي كاتبها الخاصة بشركاتك والناس اللي هيمسكوها من بعدي غريبة مش واضحة أوي.. والجزء الخاص بأختي، بيقول إنها عايشه، وبيقول إنها ميتة ونفس اللعبة معاك، الدنيا كلها بتقول إنك مُت وإن أنا مُت رغم إني عايش وسطيهم، لي عملت كدا يا عز الدين، لي؟
طب ازاي إنت عايش وعيلتك قامت بدفنك قدام الجميع، وعملوا جنازة كبيرة أوي ونفس الوضع مع أختي، وازاي كل الناس اللي حوليا دول عارفين كل حاجة عني أنا القديم، وبيدعموا الشركة بالشكل المستميت دا... في حاجات كتير مش فاهمها بصراحة، كنت ديمًا بتشكل لي لغز حتى وأنت طبيعي شخص عادي زينا.. وقلما ما كنت طبيعي زينا.
كان يُحدث صورة عز الدين بإندماج حتى دخلت السكرتيرة الخاصة بهِ وهي تقول: "أنا أسفة على إزعاجي لحضرتك يا فندم بس في حد سابلك العلبة دي ومشي، وبيقول ان ليه علاقة بالراجل اللي سددلك دينه في مدينة الملاهي[2]".. ما أن سمع تلك الجملة حتى إصابته انتفاضه سريعة فقام في لهفة وتردد جعلت سكرتيرته تتعجب فعله المفاجئ والغير معهود بالنسبة له، أمسك منها العلبة وقد كانت صغيرة السمك مسطتيلية الشكل تكبر سنتيمترات عن علبة الكوتشينة وهو يقول: هو لسه برا؟
- لا يفندم وهو سابلنا الكارت وقالنا كدا ومشي
= تعرفي توصفيلي شكله؟
- هو كان داخل جسمه من فوق عريان هدوم متغطي وشوم ووشه ملفوف عليها شاش كله عامل زي بتوع النينجا كدا مش باين غير عنيه، صوته كان تخين وكأن في مؤثر صوتي فيه أو حاجة زي كدا، ولما لف وخرج كان مرسوم على ظهره وشم على شكل ختم كبير كدا.
(بينما هو يسمع وصفها منه زاد يقينه داخليًا أن عز الدين مازال حي ومع ذاك اليقين تذكر جملة في الرسالة تقول "حين تشعر أن هناك شيء غير طبيعي أو مثير للشك، حاول أن تجمع وتلاحظ أدق التفاصيل كأن يكون مكتبك مرتبًا كالعادة لكن قلمك أنحرف عن مساره عدد واحد درجة، وأحرص على يكون وجهك متعجبًا لا يدري أي شيء، وأن تكون رغم ما تعرف لا تعرف شيء" تذكر هذا وكان الأدرينالين في جسده يرتفع شعورًا بالسعادة والنشوة، فترابط هذا الموقف يزيد من نسبة حياتهما تمالك نفسه سريعًا، وظهر على وجهه علامة الجهل التام بما تقول...
سألها عن الشعار الموجود في ظهره لعله يعلم شيء أو يرمز لشيء معين، فاخبرته أنها كانت جمجمة مرسومة بالكلمات الإنجليزية يتوسطها حرف
D لكنها لا تذكر كلمة مما كُتِبَ.. فتح العلبة منها ليخرج منها كوتشينة فعلًا تتكون جميعها من نفس الورقة، "ورقة جوكر" وخلفها نفس الشعار، ما أن رأته حتى قالت له: كان الوشم على ظهره نفس تلك الرسمة بالضبط، لكن الفرق أن تلك الرسمة مكتوبة بخطوط عادية أما ظهره كان بالكلمات.
نظر في الورقة يتأملها وكانت أول ورقة ومكتوب عليها "الدرب الذي سلكته أوشك على الإنتهاء، وسأعود بقوة أكثر من السابق" قرأ تلك الجملة وهو لا يفهم شيء حقًا، طلب من السكرتيرة أن تنصرف وبقي هو يتأمل الأوراق التي أمامه)
......................



[1] الفقرة دي كلها مقتصة من الجزء الأول بالكامل الجزء الأول بعنوان "المسخ ذو الوجه البريء)

[2] لو مقرأتش الجزء الأول فهي تقصد إن فيوم راح الملاهي هو وأخته اللي هي زوجة ديمون دا وفلوسه وقعت أو ما شابه.. وهو بعتله حد من رجالته بفلوس والراجل اللي راحله قاله دا تسديد للدين...الخ الموقف بوضوح في الجزء الأول يبقى اقرأه بعنوان "المسخ ذو الوجه البريء

الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم