حرب باندورا - الفصل الخامس

 (بعد هذا السيناريو بِعقد وبضعة سنين وربما عقدان، لا أذكر بالضبط)

هناك رجل من ملامحه فهو في ريعان شبابه شابًا عشريني، لكن حين تحققتُ من هوايته فهو في بقعة الثلاثينات من عمره كان ممسكًا بسيجارٍ في يده، لايهم.. لندخل في صُلب الموضوع، كان جالسًا على أريكةٍ حمراء اللون، على ما يبدو أنه في مكانٍ ما يتعلق بالطب النفسي أو ما شابه، استنبطتُ هذا من الأجواء المحيطة، وعلى ما يبدو أيضًا أن ذلك الطبيب صديقًا له..
هو هنا منذ عدة سنوات في ذلك القصر نادرًا ما يتجول خارجًا، في بادئ الأمر ظننته هنا لشيء يتعلق بتلك المدينة التي تسمى "أرض المجهول" لكن على ما يبدو أن هناك شيئًا أكبر.. بدأ الطبيب حديثه: أتفَهّم أن الأمر أصعب مما يبدو عليه، لكنك فكّرتَ كثيرًا في هذا الأمر قبل أن تمضي قِدمًا في تنفيذه
رد الرجل بعد أن تنهد وفرغ رئتاه من الدخان: المشكلة أن لا يوجد حلًا غير ذلك، لكن الإقدام على تلك الخطوة صعبًا جِدًا، تعلم! صعوبة الأمر ليست في حدوثه، صعوبته في أني من سيُحدثه...
= أخترتَ أن تكون رجلًا صالحًا، فمن الطبيعي أن يحاول الشيطان ردعك بكل ما يملك، لم تكن مجرد فاسدًا يريد التوبة يا رجل، لقد كُنتَ الشيطانِ بعينه، فهل سيترك الشيطان أحد رجاله يذهب هكذا؟
لنا صداقة طويلة معًا، لا يمكنني أن أطيب خاطرك بشيء، سأكون كاذبًا، طريقك طويلًا جدًا، وشاقًا أكثر، والأشواكِ فيه أسياخًا بحرارةِ أسوأ بقعةٍ في جُهنم، وقد لا ينجح الأمر في النهاية، إن كانت حسابتنا منطقية، لكننا هنا نتحدث عن الإله الواحد، عن أنه لن يترك تلك اللعنة تدومُ طويلًا، وأنت تجاهد في سبيله الآن، فمادمتَ صادقًا لن يخذلك.. هو من بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير ستنتصر بإذنه وإن كنتَ وحدك ضد جيوشًا من الثلاث عوالم ما تحت الأرض وما فوقها ومن عليها ثق في الله فلن تجد غيره لك معينًا
- أوتراني أعول على غير ذلك!
بدأت مارسلين حديثها بعد أن ظهرت فجأة وقد رق قلبها لحاله وهي تقول بأسى ملحوظٍ في صوتها وغيرُ مُكلف: يمكننا التخلص من كل هذا الألم سيدي، لِمَ لا نحاول، نصنع جيشنا ونعلنها حربًا، وأي أن كانت الضحايا فقد حاولنا سيدي، على الأقل ربما ترضى عن ما أنت فيه، أنا من الغيلان إن نسيت، يمكنني استدعاء قومي وجنود آخرون أستعدادًا لتلك الحرب إن شئت.. نبدأ نحنُ بالهجوم..
رد عليها وهو يتفهم أنها تريد المساعدة ولم تعد تطيق أن تراه هكذا قائلًا: لا يا مارسلين، لا يمكنني التضحية، أنا آخر أمل لهذا العالم في هذا الأمر، وأنتِ أكثر من يعلم أن حتى وإن أعددنا جيوشًا فسنخسر.. قوانا محدودةٍ ومحاصرةٍ غيرُ أني لا أثق في هذا التحالف بالشكل الكامل ربما يغدرون بي.. الأمور لن تكون بهذه الطريقة ابدًا.. الأمر يحتاج الكثيرُ من الوقت هنا
..................
بعد عامٍ من هذا الحوار
نفس الرجل وقد بلغ من العمر 38 حولًا كان يقف مع ابنائه وهو يقول مبتسمًا إبتسامةً زائفة تفضح ما يصرخ به قلبه المعتصر ألمًا صارخةً عينه بما بما يخفيه بداخله مُخبرتنا بكم الأسى المسيطر عليه: أهم حاجة محدش يقول حاجة... عاوزينها تبقى مفاجأة
رد عليه فتى بلغ من العمر 14 عامًا بدا عليه النقاء والبهجة قائلًا: متقلقش يبابا.. أحنا حتى بنتعامل كأننا مش فاكرين اليوم دا
واردفت بعده فتاة جميلة نقيةً كأمها، بلغت من العمر حينها 10 أعوام وهي تقول بتردد ملحوظ في كلامتها وكأنها فكرت كثيرًا قبل نطق تلك الجملة، لكن انتهى بها المطاف بنطقها وهي تقول: بس أنا حساها زعلانة يبابا معرفش لي.
سمع الأب صوتها، واغرورقت عيناه بالدموع لكنه تمالك نفسه سريعًا قبل ان يلحظه ابنه ثم رد عليها وهو يقول: علشان أنا كمان عملت نفسي مش فاكر، أمكم تصرفاتها أصغر منكم.. أو يمكن دي براءة، رغم الزمن والتجارب الشنيعة اللي عشناها كلها، لسه محتفظة ببراءتها.. ويمكن براءتها دي تمنها كل اللي شفناه، يمكن أنتوا متفهموش الكلام دا دلوقت؛ لأني أنا وأمكم بنحاول نخبي كل اللي ورا الكواليس على قد ما نقدر، آملين عيشة طيبة ليكم. (كان ينظر لإبنه وهو يتحدث وكأنه موجهًا كلامه له يبلغه برسالة ما)
بينما نظرت الفتاة له، وهي تعلم لما يبكي، رق قلبها لحاله، لكن ليس بوسعها أن تفعل أي شيء، لذا لزمت الصمت باقي الطريق، فقد أتضح لها أن ما فعلته ما هو إلا خطأ شنيع وجريمةً لا تغتفر في حق مشاعره، فما فعله لم يكن هينٌ على أي أبٍ أبدًا.. لكن هكذا هي الحياة تكمن مسؤليتها في تحمل ألمها..
ذهبوا للتسوق وشراء بعض الهدايا.. مكالمةً هاتفية سريعة مضمونها أنهم عائدون.. فتحوا الباب بإبتسامةً عريضة، الأطفال ينادون أمهم وهم يضحكون.. يودون معايدتها؛ لأن اليوم كان يوم ميلادها رقم 30 تولات النداءات... بدأ الأدرينالين في الأرتفاع، القلب تزداد نبضاته والعقل بات حائرًا.. كان الأمر غامضًا برمته.. ذهب الغموض بصدمة، ثم غموض مضاعفًا أكبر.. الأم وجدوها مقتولة.. من قتلها خنقها بسلسلة حديدة حتى الموت، كان يبدو هذا من مكان الخنق، لكن السلسلة لم تكن موجودة
....................

بعد مدة قاربت 10 سنوات أمام قبر منحوتًا عليه فتاة صغيرة تزرع كلمة "الأمل" لطالما حرص على أن تكون هويتها الكاملة سرية.. كان يحمي العائلة.. ولكنه غفل عنها فماتت دون أن يحميها، هكذا كان يلوم نفسه دائمًا في حضور ابنه، كان واقفًا في صمت.. ظل بضع دقائق ثم قال وابنه وابنته بجواره يستمعان له: حين يكون الدّيان هو الله، فأي سبيل يُمكن أن يسلكه المُدان هربًا من دينه؟ الأرض أرضه، والدَين دَينه، والحق حقه، وأنت ملكه، والخلق كذلك...
حين يحين موعد الحصاد يا بُني، يكون المحصول كائناتًا حيةً مُحاصَرَةً، وأنت المزارع مالكها... زَرعتُ الكثير من القتل، وها أنا حصدت إحدى مزروعاتي روحًا.. روحي.. لم أعد أريد أن أكون مزارعًا، سئمت الأرض قديمًا؛ فبحثتُ عن مشتري، أشتراها... كنت أزرع اللعنات بها، وكادت تصيبني بالجنون؛ فتخلصت منها ببيعها لمزارع آخر لعين، دارت الأرض حول نفسها دوراتًا سريعةً، وحول الشمس ابطأ فزيائيًا، وروحيًا أسرع بشكلٍ مريعٍ.
تعلّم المزارع الجديد فن التعامل مع لعناتي، لم يتخلص منها.. بل تركها مزروعة؛ لأنه يعلم أن صاحب أرض الأرض سيجبرني على حصادها، ونسي أنه سيجبره على حصادها أيضًا، لن تَزرع إلا وستحصد، وإن بارت الأرض فقد حصدتَ عناءَ زراعتها، وإن أنبتت، فالثمار لن تكون مختلفةً كثيرًا عن نوع نبتتك.. جودتها غير معلوم لك ما دامت الثمرةِ بباطن زرعتها، لكن من يحدد جودتها يرى ما بباطنك.. الأرض بداخلك والحصاد مخيف.. مخيف؛ لأنه يسكن خارجك، يحيطك في كل مكان، فأحرص على أن تزرع ما أنت مستعد ان تأكله، حتى لا تتجرعه دمًا.. سترى الأشجار تتساقط أوراقها رُغم أنه ليس الخريف، سترى الكلاب تنهش لحمك كالليوث، رغم أن ما بدى لك، أنه حيوانٌ أليف.. لا ألفة هنا، لا رحمةً في الأرض.. الرب يملك الرحمة كلها.. لا حقيقةً في الدنيا، كل الأحداث التي تراها بعينك مزيفة.. هناك فرق بين أنك تريدُ أن ترى، وأنك تريد أن تبصر، الثانية تحتاج لبصيرة، تحتاج لأكثر من مجرد عيون، تريد عيونًا نابضة، وعيونًا عاقله، وفي الأخير عيونًا فقط ترى)
..................

في غرفةً مخفية بداخل قصرٍ كبيرٍ ينظرُ لسلسلةٍ ذهبيةٍ كانت بيده، بداخلها صورة أنثى.. كانت أمه، كان يردد كلماتًا يبدو أنه لم يكن يرتجلها بل حفظها عن ظهر قلب مِن كَثرة قراءتها، كانت تلك الكلمات:
(حين يكون الدّيان هو الله، فأي سبيل يُمكن أن يسلكه المُدان هربًا من دينه؟ الأرض أرضه، والدَين دَينه، والحق حقه، وأنت ملكه، والخلق كذلك...) هو حفظها لأن كاتبها قال، أن مفتاح حياة وموت أمهِ هنا.. ولم يلحظ أن تلك الجلمة قيلة في المقابر أمام ذلك القبر بالتحديد.. ولو كان على علمٍ بأبيه لَعلِمَ أن في الأمرِ حلقةً مُبهمة، حلقةً عجز عن تفسيرها، لماذا قُتِلت، لماذا لم يتخذ أبيه أي اجراء تجاه هذا الأمر لماذا الكثير...

الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم