لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى _ابنة الشريف
الفصل الرابع: لا تبكي يا تلميذتي:
عجبت للغريب الذي يبكي على ما بي من هموم دون أن ينصت لباقي الكلام، كانت تبكي لكن لا تعرف سبب البكاء، نظر لها بهدوء و على وجهه ابتسامة قائلًا بصوت هادئ...
-بتعيطي ليه؟!
-هاا أبدًا مش بعيط، قالتها و هي تمسح دموعها بهدوء و نظرت له بهدوء قائلًة بإبتسامة...
-ازاي عرفت إنك ابن حسين المغاربي بالتبني؟!
-يوم نتيجة الثانوية العامة سمعته هو ماما نجوى بيتكلموا عني، و لما قربت عرفت إني ابنهم بالتبني.
أجابها و هو ينظر إلى النافذة التي خلف السرير، و فجاءة أحس بيدها تلامس يده لأول مرة و هنا صُدمت شادن فكيف لها أن تلمسه و هو الطيف الطارئ الغريب الحاضر الغائب في حياتها، سرعان ما خرجت من دائرة تفكيرها قائلة...
-مش يمكن أنتَ سمعت أو فهمت غلط؟!
-مش عارف و مش عايز أعرف، كده أنا مرتاح، قالها بحزن..
-طيب أنا متأكدة إنك لما تفوق هتعرف الحقيقة يا مستر، قالتها و هي تنظر له بهدوء فابتسم لها قائلًا...
-يمكن..
-كملي حكاية خطيبتك، ازاي قابلتها؟!
ابتسم و نظر لها بهدوء قائلًا...
-يمكن إللي حصلي ده هيبين كل شخص على حقيقته..
-خير إن شاء الله... قالتها بإبتسامة..
نظر لها بهدوء قائلاً...
-أول مرة قابلت إلين كنت في الجامعة في تالته كلية عجبني طريقة لبسها و كلامها، رغم إنها شايله عالي إلا إنها عجبتني، خلصت جامعتي و روحت قعدت مع بابا و اتكلمت معاه و طلبت منه يجي معايا و أنا بتقدملها و وافق و روحت خطبتها و فهمتها إني منفصل عن والدي و إني بكون نفسي بنفسي، مر أول تلات شهور بسلام و بعد كده بدأت إلين تزن عليا علشان أنزل اشتغل مع والدي و كان كل يوم مشكلة بسبب موضوع الشغل و لما جالي طلب تعيين خارج القاهرة وافقت و قولت لما ابعد عنها المشاكل هتقل المشاكل مش قلت لدرجة إن يوم سفري اتخانقت معاها و قولتلها ننفصل يا إلين..
-بتحبها؟!
سألته بهدوء فنظر لها بصدمة كأنما ذاك السؤال كان صدمة له، ابتسمت له قائلة...
-شكلك كنت معجب بس؛ لأنك لو بتحبها بنسبة واحد في الميه كنت رديت بأسرع وقت و ما كنتش اترددت كده...
-مش عارفه يمكن كلامك صحيح بس أنا مش واثق في مشاعري.
قالها بهدوء، فابتسمت و نظرت في عينيه قائلة له بصوت هادئ..
-أنتَ اتعودت عليها و على روتينك اليومي و صوتها و الكلام معاها يوميًا، و ده اسمه تعود مش حب و مع الوقت و الاستمرار في العلاقة هتظهر المشاكل و هتمل..
نظر لها بصدمة فكيف لطفلة لم تتعد السادسة عشر بعد أن تلفظ بهذه الكلمات، تحدث بفم مشدوه قائلاً..
-أنتِ ازاي كده؟!
-كده إللي هو ازاي يعني؟! سألته بحيرة و عدم فهم..
-ازاي قدرتي تفسري مشاعري و تفهمي إللي جوايا، و أنتِ لسه ما تمتيش ١٦ سنة؟!سألها و الصدمة واضحة في ملامح وجهه، فابتسمت له بهدوء قائلة..
-أنتَ بتبقى ماشي في الشارع شايف الحجارة أشكال و ألوان إللي بيعجبك منها مع الوقت بترميه و إللي مش بيعجبك بيعورك، و عمرها ما بتكون بالسن؛ إنما بتكون بالعقل.
ابتسم من كلماتها و علم أن العقل دائمًا ما يتفوق على السن لدي بعض النساء.
نظر لها بهدوء قائلاً بفضول يجتاحه..
-و أنتِ بقى حكايتك إيه؟!
ضحكت بصوت هادئ، و نظرت في عينيه...
-حكايتي، لأ ما ليش حكاية؛ لأني كتاب مليان أحداث و هموم...
نظر لها بهدوء قائلًا...
-ما تشاركيني مش يمكن همك يخف مع الوقت..
نظرت في عينيه بحزن قائلة بضيق..
-عمر همي ما هيقل مع الوقت يا أستاذنا؛ لأن إللي ضاع ما يتعوضش.
نظر لها بحيرة قائلة و هو يتعمق في سوداوتيها...
-ليه بتتكلمي بالألغاز؟!..
ما إن أنهى سؤاله حتى رأي ذاك البريق في عينيها فحاول أن يلمسها إلا أنه خشي أن يعبر من خلال جسدها فتراجع قائلًا..
-إيه إللي جواكي؟!
نظرت له بحزنٍ و دموعها تنساب على وجنتيها قائلة...
-كان ليا أخت توأم و كنت عايشه معاها بهدوء و راحة و كنا بنحب بعض أوي، و في يوم أختي تعبت جامد و بابا خدها و راح يكشف عليها و اكتشفنا إن عندها كانسر في الدم و إنه في مراحله الأخيرة، و كان لازم حد مننا يتبرع بنخاع العظم ليها و طلبت من والدي إني أتبرعلها بس هو رفض و قال إن جسمي ضعيف و ما ينفعش، و حاول يشوف متبرع لكن للأسف شام ماتت قبل ما يلاقي حد يتبرعلها بنخاع العظام و من يومها و أنا حياتي أتغيرت و بقيت كسولة و مش عايزه أعمل حاجة و انطوائية و مش بتكلم مع حد إلا نادرًا، و دايمًا بفكر لو هي معايا دلوقتي كان ممكن يحصل إيه؟؟، و في الحقيقة أنا سبب موتها؛ لأني لو كنتي أصريت على والدي كان هيوافق...
أنهت كلماتها و انفجرت باكية، فنظر لها بحزن و لم يتحدث، فكيف يداوي ذاك الجرح العميق في قلب تلك الطفلة الصغيرة، كيف؟!، سؤال طرحه عقله و هو جالس ينظر إليها بحزن، حاول أن يخفف عنها، لكنه لم يستطع فعل شيء، و فجاءة لاحظ ابتسامة ساخرة ارتسمت على ثغرها فنظر إليها بتعجب، فنظرت في عينيه قائلة..
-خلي شفقتك لحد غيري...
أنهت جملتها و وقفت و سارت باتجاه مكتبها و أخرجت ذاك الدفتر و أمسكت بذاك القلم و بدأت تسرد مشاعرها المتناثرة التي تخالط هدوء روحها و سكينة نفسها..
قام و اتجه إليها بهدوء قائلًا...
-شادن أنا عايز أروح المشفى...
-مش فاهمة، قالتها و قد تركت ذاك القلم و نظرت له بصدمة من طلبه..
-مش يمكن لما أروح المشفى أقدر أرجع لجسمي من جديد..
نظرت له بحيرة و ابتسمت قائلة بهدوء...
-و حضرتك عايزني أساعدك و اطلب من بابا إنه ياخدني معاه المشفى...
-بالظبط، بأي طريقة بقى...
نظرت له بهدوء، ثم شردت تفكر لبضعة دقائق و قامت قائلة له و هي تشير له بسبابة يُمناها..
-تمام هساعدك...
أنهت جملتها و هبطت إلى أسفل و اتجهت إلى حيث يجلس والدها، و اقتربت منه قائلة بهدوء...
-بابا عايزه أجي معاك المشفى؟!
نظر لها بصدمة فهذه هي مرتها الأولى التي تطلب منه الذهاب إلى المشفى منذ ذاك اليوم الذي توفيت فيه شام، حتى في مرضها كان يتصل بصديقه الطبيب علاء محسن و يطلب منه القدوم إلى منزله، لاحظت شادن صدمة والدها فنظرت له قائلة..
-إيه مش هتاخدني معاك؟!
ابتسم بهدوء في محاولة منها ليداري صدمته...
-أكيد هاخدك، بس لسه عايزه تروحي المشفى و أنتِ عندك فوبيا منه؟!
-عايزه أشوف الحالة إللي الإعلام بيتكلم عنها...
أجابته بهدوء، فبدأ والدها يشك في كلماتها خاصة بعدما مر بجوار غرفتها و سمع حديثها، نظر لها بهدوء قائلًا...
-شادن هو أنتِ بتشوفي حاجة؟!
-لأ يا بابا حاجة إيه، أجابته باندفاع و تسرع و توتر بادٍ في ملامحها، فتأكدت شكوك والدها و ابتسم بهدوء قائلًا لها بحنان...
-تمام هاخدك معايا المشفى، و بالمرة تقابلي دكتور عامر و تتكلمي معه..
-أوك يا أحلى بابا في الدنيا، قالتها و هي تقترب منه و تطبع قبلة خفيفة على خده..
ركضت باتجاه غرفتها و نظر والدها خلفها قائلًا...
-جهزي نفسك؛ علشان همشي بعد نص ساعة..
-حاضر يا بابا، قالتها بصوت مرتفع و هي تصعد إلى أعلى..
شرد في أثرها بهدوء و أطرق رأسه إلى الأرض و أخذ يفكر في كلماتها و رد فعل السريع، ثم ألهمه الله أن يتصل بذاك الطبيب النفسي، أخرج هاتفه و اتصل به و أخذ يتحدث معه بهدوء شديد، و ما إن أنهى المكالمة حتى وجدها أمامه بثوبها الأسود و حجابها النبيتي اللون و حذائها و حقيبتها اللذان يشبهان نفس لون الحجاب، ابتسم على مظهرها و نظر لها برضا قائلًا...
-عمري ما شوفت غزالة في جمالك يا قلبي...
-طيب يا حاج يلا بينا، علشان ماما لو سمعتك هتقتلني
قالتها و هي تضحك، فأخذها و اتجه إلى باب المنزل و في الطريق سمع صوت والدته...
-رايح فين يا أسامة أنتَ و مقصوفة الرقبة دي؟!
ضحك أسامة من كلمات والدته و اقتربت منها شادن قائلة بحزن مصطنع..
-بقى كده يا جدتي أنا مقصوفة رقبة؛ طيب شوفي مين إللي هيجبلك حاجة حلوه و هو جاي بقى...
أمسكتها جدتها قائلة بإبتسامة.
-لأ أنتِ حبيبتي، أنا بتكلم على مقصوفة الرقبة إللي في المطبخ على طول، و بعدين هاتيلي حاجة حلوه علشان أحكيلك حكاية سندريلا..
-حاضر يا جدتي من عنيا...
أنهت جملتها و اتجهت إلى حيث يقف والدها، فنظر والدها إلى والدته قائلًا...
-عايزه حاجة يا أمي؟!
-لأ يا ابني سلامتك، بس خلي بالك من الوردة إللي معاك علشان فتحت، و طالعه جميلة زي...
قالتها و هي تنظر إلى شادن، فضحكت شادن قائلة و هي تشير إليها بأدب...
-بقى في حد يطول يبقى شبه القمر ده يا لوزه يا قمر أنتِ...
-شوف البت البكاشة..
قالتها والدتها و هي تخرج من المطبخ و معها صينيه بها أكواب عصير، فابتسمت جدتها قائلة...
-أنتِ غيرانه مني ليه يا بت يا شادية...
ضحك الجميع بما فيهم الجدة، و خرج أسامة و شادن إلى حيث يركن سيارته و عندما خرجا و جدا مجموعة من الشباب كان من بينهم عمر ابن الأستاذ عثمان و ما رأي شادن و أسامة حتى اقترب من أسامة و مد يده مصافحًا إياه قائلًا...
-اذيك يا دكتور عامل إيه؟!
-بخير يا حبيبي أنتَ إللي عامل إيه؟! قالها و هو يشدد من مصافحته، فابتسم ذاك العمر قائلًا...
-بخير الحمدلله..
أنهى جملته و نظر إلى شادن قائلًا بهدوء...
-حضرتك عامله إيه يا أنسة شادن؟!
أخفضت رأسها خجلًا قائلة بهدوء...
-بخير الحمدلله...
نظر لها أسامة قائلًا بغيرة..
-يلا يا قلب بابا اركبي على ما أحصلك...
-حاضر، قالتها بطاعة و اتجهت إلى السيارة و فتحت الباب و جلست على المقعد الأمامي في الجهة اليمني، و تبعتها عين ذلك العمر فلاحظت ذلك و أخفضت رأسها بهدوء في خجل، نظر أسامة له بإبتسامة قائلًا...
-عايز حاجة يا باشمهندس؟!
-سلامتك يا دكتور، قالها بشرود، فابتسم أسامة و اتجه إلى السيارة و استقلها و تحرك باتجاه المشفى، و ما إن غادر حتى اقترب أحد أولئك الشباب من عمر و وضع يده على كتفه قائلًا...
-شكلك واقع يا صاحبي؟!
-واقع بس ده أنا هموت و تبقى من نصيبي، قالها بشرود، فأجابه ذاك الشاب قائلًا...
-بس دي لسه صغيره و بتدرس؟!
-صغير مين ده كفايه أدبها و أخلاقها إللي الأعمى يشوف بسببهم..
قالها و هو يزيح يد صديقه من على كتفه، فنظر صديقه إلى اتجاه السيارة قائلًا.
-و لا جسمها...
و قبل أن يكمل حديثه تلقى ضربة من عمر قائلًا له...
-إياك تبصلها، دي طول عمرها فوق مش زي إللي أنتَ تعرفهم يا عماد..
ابتسم عماد بهدوء رغم ما به من ألم قائلًا...
-بصراحة معاك حق، دي من بيتها لمدرستها و العكس، دي حتى ما بتخرجش زي بقيت البنات، و لا بتمشي وسط شلة و لا الكلام ده كله...
-ربنا يحفظها و يحميها و يجعلها أسعد إنسانة..
قالها عمر بإبتسامة هادئة فنظر إليه صديقه عماد قائلًا...
-لو غيرك خدها هتزعل؟!
-لأ علشان هي تستاهل كل خير..
قالها و اتجه إلى أولئك الشباب، فنظر عماد إلى ذاك المنزل بهدوء
قائلًا...
-شكلك نجمة عالية يا بنت أسامة حجازى، بس أنا حطيتك في دماغي..
أنهى جملته و اتجه إلي بقية أصدقائه.
بعد مضى ثلث ساعة وصل أسامة بصحبة شادن إلى المشفي و ما إن نزلت من السيارة و نظرت إلى ذاك المبنى الضخم حتى تذكرت شام و صراخ أمها عليها، لمعت الدموع في عينيها فاقترب منها والدها بهدوء قائلًا...
-مش هتدخلي و لا إيه؟! سألها و هو يتابع ردة فعلها و تعابير وجهها..
-لا أكيد هدخل، بس افتكرت شام الله يرحمها، قالتها و هي تمسح دموعها، فنظر والدها في عينيها قائلًا و هو يضع يُمناه على كتفها بحنان..
-في حاجات ما ينفعش تتحكي، علشان لو اتحكت هتجرح أكتر..
نظرت له بإبتسامة هادئة و أومئت رأسها بتفهم، و سارت معه باتجاه المشفى و ما إن وضعت قدمها على باب المشفى حتى لمعت الدموع في عينيها، فمد أسامة يده و ضغط على يسراها كأنما يبث في داخلها القوة للاستمرار، و ما إن أحست بذلك حتى وضعت قدمها اليمني داخل المشفى و سارت بكل هدوء و ثقة إلى الداخل، نظر لها والدها بهدوء قائلاً...
-افتكري إن المكان ده أهم من السينما و البيت و الملاهي..
-أكيد هنا أرواح بيتم إنقاذها يوميًا، أوجاع بيتم تخفيفها يوميًا، هنا بداية حياة جديدة لناس فكرت إن حياتهم انتهت..
قالتها بثقة، أخذها و اتجه إلى تلك الغرفة و ما إن وصلت و رأت ذاك الملقى على الفراش و تلك الأجهزة على جسده حتى تذكرت منظر شام و أخذت دموعها تنهمر، نظر إليها ذاك الحاضر الغائب، الغريب القريب بتعجب من حالتها، فكيف تبكي عليه و هي لا تعرفه؟!، و لما تبكي في الأساس؟!، فضوله لمعرفة شخصيتها يزداد ثانية بعد أخرى، بات يتسأل "أتبكي عليه أم علي غيره؟!"، لم يجد جوابًا يخفف ما به من ألم، نظر إليها و عبر ذاك الزجاج الخارجي أمام عينيها ليحاول الاتحاد بجسده إلا أنه لم يفلح في ذلك.
ما دام رب الكون لم يكتب لك ة فلن تعود، اصبر فإن مع الصبر يسرٌ لو خبرته لصبرت ألف ألف عام و ما تمنيت الرجوع، و أعلم بأن الصبر مفتاح الفرج القريب البعيد الذي انتظرته أعواماً طوالًا، لا الروح تفنى بفناء الجسد، و لا القلب معذب بالهوى إلا إن هوى في الهوى.
و دقت العاشرة
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازي
ابنة الشريف