رواية ودقت العاشر - الفصل الثاني

 رواية و دقت العاشرة لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى _ابنة الشريف الفصل الثاني 
 (2) حي أم ميت؟!
بين الحياة و الموت خيط رفيع يسمى الروح إن غادرت الجسد فني و إن بقت ازدهر، و كذلك فإن الطيف لا يعني بأن صاحبه ميت في الأصل ربما يكون حيًا و روحه تزور أليفتها، لأن الروح لا تقرب إلا شبيهتها.
عادت شادن إلى منزلها و قبل أن تصل إلى المنزل قابلها شيخ القرية الشيخ أحمد عبدالنبي، ذاك الشيخ ذو الجلبية السوداء و العمة البيضاء الأزهرية، و ملامحه العريقة بذاك الأنف الصقري المعكوف الذي يتوسط وجهه المربع و عينيه التي تشبه عيون الجياد العربية الأصيلة البنية اللون الصغيرة الحدقة و حاجبيه الأسودان الموصلان و تلك الشفاه المتوسطة الحجم، تلك الملامح البشوشة التي تبث الأمن و الطمئنينة في قلوب الناظر لها، ابتسم ذاك الشيخ لها و غض بصره عنها بهدوء قائلًا..
-و عليكم السلام يا بنتي...
نظرت إلى الشيخ و همت بالتحدث، لكن هناك شيء بداخلها منعها من الحديث و نظرت إلى الشيخ بحيرة و لم تنطق ببنت شفه، فرفع الشيخ نظره إليها بهدوء و بدأ يحرك أنامله على تلك السبحة التي في يُمناه قائلًا لها بهدوء...
-للضرورة أحكام يا بنتي، و في غالب الوقت الضرورة تبيح المحذورات.
-إيه إللي بتقصده يا مولانا؟!سألته بحيرة..
-الطيف إللي معاكي هيغيب يا شادن و ينسى بس أنتِ مش هتنسي.
أجابها بإبتسامة و غادر المكان بهدوء دون أن يترك لها مجالًا للسؤال.
أخذت تسير بشرود في شوارع الرحبة و هي تفكر في كلمات الشيخ أحمد، فجاءة اصطدمت بسيدة مسنة تكسو التجاعيد ملامح وجهها، فابتسمت لها بهدوء قائلة و هي تخفض رأسها...
-أسفه ما أخدتش بالي...
-مفيش داعي للأسف، بس بطلي تفكير في إللي جاي؛ لأنه جاي جاي.
أجابتها بهدوء و سارت في طريقها و وصلت إلى منزلها و طرقت الباب ففتحت لها والدتها الباب بإبتسامة واسعة، فنظرت لها شادن بهدوء قائلة...
-السلام عليكم...
-و عليكم السلام يا قلبي..
أجابتها الأم بحرارة و حنان، دخلت شادن إلى المنزل بهدوء شديد و صعدت إلى غرفتها و صدمت الأم مما حدث فليست هذه التي أمامها ابنتها التي تركض هنا و هناك و تقفز داخل أحضانها ما إن تعد من مدرستها، لكنها سرعان ما نفت تلك الأفكار التي خالطت عقلها و لسان حالها يقول علّا تلك الطفلة كبرت و تعقلت، لكن في الحقيقة لم تكبر الطفلة و لم تعقل، كل ما هنالك أن بالها مشغول.

صعدت شادن إلى غرفتها و وضعت حقيبتها في مكانها الصحيح، و أخذت ثيابها المنزلية و اتجهت إلى حمام المنزل بكل هدوء و أريحية و بدأت ثيابها و أخذتهم و علقتهم على تلك الشماعة، ثم جلست على مكتبها و أخذت تلهي نفسها في مذاكرتها و بعض الكتب الموضوعة أمامها بكل هدوء؛ لتتجنب الحديث مع ذاك الطيف الذي يحيط بها في كل مكان.
نظرت إلى ساعة المنزل فإذا بها قد أصبحت الخامسة عصرًا، و ذاك هو موعد عودة والدها من عمله و تناول طعام الغداء، جمعت مستلزماتها و أعادتهم إلى أماكنهم الصحيحة بهدوء شديد و خرجت من الغرفة بهدوء و اتجهت إلى أسفل حيث المكان الذي تتناول فيه الطعام مع أسرتها، و ما إن وصلت حتى نظرت إلى والدتها بهدوء قائلة بصوت رقيق و يديها بجوارها احترامًا لتلك السيدة التي ربتها..
-ما نادتيش عليا ليه يا أمي؟!
-مفيش داعي، أكيد كنتِ بتذاكري و ما حبتش ازعجك.
أجابتها والدتها بإبتسامة عذبة رقيقة تزين ثغرها الصغير الوردي اللون، فنظرت لها بإبتسامة و لم تنطق ببنت شفه، و فجاءة دق جرس الباب فاتجهت شادن إليه و نظرت من العين السحرية لتكتشف أنه والدها فتفتح الباب قائلة بصوت مرتفع نسبيًا بحيث تسمع والدتها الكلمات...
-بابا جه.
ابتسم والدها و قبل رأسها بحنان و نظر لها بهدوء قائلًا و هو يضع يُمناه على وجنتها بحنان...
-حبيبة قلب بابا يا ناس ربنا يحفظك يا روحي.
ابتسمت له بهدوء و أجابته بصوتها الأنثوي الناعم...
-و يديمك فخر ليا يا سيد الناس..
أخذها و اتجه بها إلى غرفة المعيشة و جلس علي ذاك المقعد التي يتوسط مقدمة تلك الطاولة المصنوعة من خشب الزان العتيق، و والدته على يمينه و زوجته على يساره و تلك الريحانة تجلس بحوار جدتها، بدأ الجميع يتناول الطعام في هدوء تام، و فجاءة قطع ذاك الصمت ذاك السؤال الذي ألقته تلك الطفلة..
-بابا هي الحالة استقرت و لا لأ؟!
نظر لها بحيرة و لسان حاله يقول عن أي حالة تسأل فالحالات كثر، استشفت شادن ما يدور في عقله فابتسمت قائلة بهدوء و هي تضع المعلقة بجوار الطبق...
-الحالة إللي اتأخرت بسببها امبارح...
-آه افتكرت، الحالة استقرت الحمدلله بس المريض دخل في غيبوبة.
أجابها بحزن، فنظرت إلى ذاك الجالس أمامها بهدوء قائلة بحزن...
-مافيش أمل إنه يتحسن؟!
-لأ في طبعًا بس مش دي المشكلة، قالها أسامة بهدوء...
-أومال إيه المشكلة؟! سألته بحيرة
نظر إليها بإبتسامة قائلًا...
-المشكلة إني مش هعرف استمر في معالجته...
-ليه بقى؟! سألته بدهشة..
-المفروض أنزل القاهرة بكره علشان أظبط البيت هناك و اجهز ورقك علشان تحولي للمدرسة يا قلبي، و كمان عندي شغل في الشركة.
أجابها بكل وضوح و شفافية، فنظرت له بحزن قائلة و هي تبلع معلقة الأرز التي تناولتها و هو يتحدث...
-بس أنا مش عايزه أعيش في القاهرة، و لا بحب القاهرة...
-بكره تحبيها يا شادن..
أنهى الجميع طعامهم و صعدت شادن إلى غرفتها بعدما ساعدت والدتها في جمع الأطباق و غسلها، و دخلت و جلست على مكتبها بهدوء و أخرجت ذاك القلم و ذلك الدفتر الذي تدون فيه بعض ذكرياتها مذ كانت في الصف الثالث الإعدادي، أمسكت بالقلم بهدوء شديد و بدأت تحدث نفسها و هي تكتب ما يدور في عقلها..
-مش عارفة إيه إللي بيحصل و لا تفسيره إيه، و لا فاهمة أي حاجة في حياتي إللي اتقلبت دي، بس كل إللي أعرفه إني مش عايزه بابا يسيب الشخص ده، يمكن ما أعرفش حكايته إيه، بس حاسه شخص كويس و محترم، بس في نفس الوقت مش فاهمة ليه يظهرلي أنا، إيه إللي يربطه بيا؟!
ظلت تكتب في ذلك الدفتر ما حدث في يومها و المواقف التي تعرضت لها منذ الصباح و فجاءة قاطع كل هذا ذاك الطيف الذي يراقبها في صمت شديد منذ الصباح، و يقرأ ما تكتب..
-أنا أسف إني قلبت حياتك، بس في الحقيقة كل إللي فاكرة إنك آخر شخص شوفته قبل الحادثة...
نظرت له بصدمة و كادت أن تجن من كلماته و تعجبت منها قائلة له بقلق....
-ازاي و الحادثة كانت بره القرية؟!..
ابتسم بتهكم و نظر لها بهدوء و أردف بحيرة...
-كل إللي فاكره إني كنت هخبطك بالعربية و أنتِ بتعدي الطريق الساعة ٩.٥٠ و إني وقفتك الساعة ١٠ بالظبط و سألتك عن مدرسة الرحبة الثانوية، ما عرفش اللي حصل بعد كده أو قبل كده...
نظرت له بتعجب و قلق حاولت مدارته و تغيير مجري الكلام قائلة بهدوء يخالف القلق الذي يتملكها...
-طيب ممكن أعرف أنا أقدر أساعدك بإيه علشان تختفي من حياتي؟!
-لو أعرف أكيد هقولك.
أجابها بفم مشدوه و ابتسامة ساخرة، و قام و جلس على تلك الأريكة بكل هدوء و لم بنطق ببنت شفه، بينما قامت تلك الشادن و اتجهت إلى أسفل حيث تجلس جدتها و ما إن رأتها الجدة حتى ابتسمت قائلة...
-سلمي عليه...
فتحت شادن فاهها بصدمة و لم تستطع الجواب و اقتربت من جدتها و وضعت يُمناها على رأسها بتعجب قائلة...
-هو حضرتك كويسة يا جدتي؟!
-يا بنت الكلب أنتِ فاكراني خرفت، ده أبوكي و أمك يخرفوا و أنا لأ.
أجابتها الجدة و هي تخفض يدها عن جبهتها بإبتسامة هادئة، فنظرت لها شادن بعيون متسعة قائلة بدهشة و هي تشير لها بسبابتها...
-يعني شوفتيه؟!
-آيوه و اتكلمت معاه..، أجابتها الجدة بإبتسامة عريضة، فصُدمت شادن من كلماتها و نظرت في عينيها بترقب قائلة...
-هو مين ده يا جدتي؟!
-جدك و قالي إن هو هيجي يخطبني و يعملي فرح كبير أوي...
وقعت كلمات الجدة على أذن شادن مثل زخ المطر في ليلة من ليالي الشتاء الباردة الممطرة، و نظرت إلى جدتها بتعجب و لم تنطق ببنت شفه و استأذنت من جدتها في المغادرة، فنظرت لها الجدة بهدوء قائلة...
-براحتك أنتِ الخسرانه..
لم تلتفت شادن لكلماتها، و صعدت إلى غرفتها بهدوء و صلت المغرب بخشوع لله ربها و كانت هادئة في صلاتها و أنهت صلاتها و قامت و أخرجت اللاب الخاص بها و فتحت إحدى ملفاتها التي كانت تحوي كتابًا بعنوان "الروح و الجسد" و كان الكتاب لحسين المغاربي، ابتسمت بهدوء و فتحت أولى صفحاته و أخذت تقرأ فيه حتى وصلت إلى تلك المقولة "تتزاور الأرواح في المنام، و قد 
تتزاور في أرض الواقع بسبب ارتباطها ببعضها البعض" نظرت إلى تلك الكلمات بتعجب ثم أغلقت اللاب بكل هدوء و أريحية و أخذت تفكر في تلك الكلمات ثم فتحت كتاب الله عزوجل علها تجد فيه ما يخفف عنها ما هي به، أخذت تتلو من أيات الذكر الحكيم حتى هدئت روحها، و فجاءة سمعت دقات باندول الساعة، فعلمت أنها العاشرة مساءً، فقامت إلى فراشها و همت بالنوم لولا صوته الذي منعها من النوم...
-ليه ما سألتيش عن حياتي؟!، سألها بحيرة..
-هو التلميذ بيسأل أستاذه عن خصوصياته؟!، ردت السؤال بسؤال، فنظر لها بهدوء قائلًا...
-لاحظت إنك بتردي السؤال بسؤال مش بجملة مفيدة.
-كويس إن حضرتك خدت بالك...
قالتها بإبتسامة، فنظر لها قائلًا...
-شكلك غلباوية...
-بس أنا بلسان كامل مش بنص لسان...
ضحك من جملتها فشردت في ضحكته الرجولية الجذابة، و لكنها سرعان ما نهرت نفسها على ذلك، فابتسم لها قائلًا...
-في حاجات بتحصل و من الأفضل إنها تمشي زي ما مكتوب ليها يا شادن، مش لازم نفكر فيها كتير و لا نعاقب نفسنا عليها، مع الوقت هتختفي.
-امممم، هو حضرتك مؤمن بالقدر؟! سألته بحيرة..
-فنظر لها بإبتسامة قائلًا...
-ليس منا ما لم يؤمن بالقدر خيره و شره، بس بتسألِ ليه؟!..
-أصل حضرتك بتاع فلسفة، و احنا عارفين إن بتوع الفلسفة دول يعني مفوته منهم شويه...
أنهت جملتها و أخفضت رأسها في خجل، فضحك باسل بصوت عالٍ و نظر إليها بهدوء قائلًا...
-مش كل الفلاسفة مفوته  منهم، زي ما في كده في كده...
نظرت له بهدوء قائلة بتساؤل...
-و حضرتك من إللي كده و لا إللي كده؟!
قالتها و هي تصنع بيدها إشارة مجنون مرة و مرة آخرى تشير إلى خط مستقيم، فضحك من طريقة تعبيرها، و نظر إليها قائلًا...
-لا ده و لا ده...
-إيه ده هو في نوع جديد يا رجب؟!
سألته و هي تطبق يدًا على الآخري، فضحك بصوتٍ مرتفع من أسلوبها و نظر إليها قائلًا...
-في نفسك، أنتَ عايز تبقى إيه، تبقى المجنون، و لا العاقل، و لا ميكس بين الاتنين...
نظرت له بهدوء قائلة...

-تصدق الواحد نفسه في سندويتش ميكس جبن دلوقتي، سيبك من الفلسفة أصلها مش بتأكل..
نظر لها بهدوء و لم يتحدث فهو يعلم أنها تهزأ به، أو ربما لا تحب الفلسفة، نظرت له بحيرة و لم تنطق ببنت شفه، فقد توقعت أن ينهرها على كلماتها لكن لم يحدث ذلك.
أغلقت الاضواء و تدثرت في فراشها و أغمضت عينيها بهدوء شديد لتغط في نوم عميق، جلس ذلك الآخر بتأمل ملامح وجهها، و أحس بأن هناك شيء يتحرك بداخله لا يعلم ماهيته، لكنه يعلم أنه لا يريد الكف عن النظر إلى وجهها و تأمل ملامحها، و فجاءة أبتعد عن المكان و أخذ ينهر نفسه على فعلته تلك فما هي إلا طالبة لديه، اتجه إلى الأريكة و جلس عليها بهدوء شديد و لم ينبث ببنت شفه، أخذ يفكر في حالته و كيف سيعود إلى جسده، و مَن الذي يستطيع مساعدته في ذلك الأمر؟!،و في النهاية توصل إلى خطة تفيده في ذلك.
في القاهرة كان ذلك الرجل جالسًا مع زوجته في تلك الغرفة الواسعة الهادئة، برغم ذاك الهدوء الذي كان يملئ المكان إلا أن الحزن كان واضحًا في وجهيهما، نظرت له تلك السيدة الأربعينية بهدوء قائلة..
-باسل عامل إيه دلوقتي؟!
نظر لها بهدوء كأنما على رأسه الطير و أجابها بهدوء...
-حالته مستقرة، بس دكتور أسامة مش هيتابعه علشان عنده شغل هنا في القاهرة.
-يعني إيه؟!
-يعني الله أعلم مين إللي هيتابع، و باسل حالته هتبقى إيه...
أجابها بهدوء و حزن، فنظرت له بقلق و عُقد لسانها عن الكلام، و قاطع هذا القلق صوت حسين الذي نطق بتلك الكلمات...
-عايزين نشوف حل لموضوع إلين يا نجوى؟!
نظرت له بخوف قائلة بصوت مضطرب...
-هنعمل إيه، مش هنقدر نعمل حاجة في الموضوع ده لحد ما باسل يفوق...
-المشكلة إن الحادثة دمرت جزء من الخلايا المخية، يعني...
نظرت له بتوتر و صرخت فيه قائلة...
-يعني إيه يا حسين باسل خلاص؟!
-لأ بس ممكن يفقد الذاكرة و البلوة دي تضحك عليه...
x
أجابها بحزن و ضيق، فلم تجب بأي كلمة و نظرت له بعينيها الممتلئة بالدموع و لم تتكلم، فوقف ذلك الرجل الخمسيني العمر بملامحه الهادئة و أنفه المستقيم و شفاهه الرقيقة الحمراء اللون و تلك العين العسلية الفاتحة و رموشه البنية الكثيفة التي تقترب من لون شعره و جسده الممشوق القوام و اتجه إلى الخارج، و ترك تلك السيدة الأربعينية تبكي في صمت شديد بملامحها الهادئة و أنفها المتوسط و شفاهها الممتلئة الوردية و عينيها الفيروزية الداكنة و شعرها الأشقر الطويل المتموج الذي تخالطه بضعة الشعيرات البيضاء، كانت حزينة على ما يحدث لطفلها الوحيد.
و سلامًا علي من بكى علينا كبارًا و تركنا صغارًا لعالمنا الذي عشنا و نعيش فيه.
ودقت العاشرة 
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى _ابنة الشريف
الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم