أتى المساء وهم في القصرِ مع ديمون يتحدثون
ويمضون يومهم معه، فستأذنهم ديمون لأنه يُريد أن يخلد للنوم، فانصرفوا في هدوء
جميعهم سوى أمه، قالت أنها تريده على أنفراد ثم ستذهب لغرفتها فيما بعد فتركوهما
معًا وخرجوا، وما أن خرجوا عم الصمت وبعض دقائق سألته أمه: أعلم أنك تكذب، أنت لم
ليلة أمس ولن تنم تلك الليلةِ أيضًا لكن لِمَ؟
صمتَ ديمون قليلًا ثم بدت على وجهه بضعة علامات متماسكة وممتزجة الغضب والخوف وغيرها
مما يوزايهما، ثم فجأة سيطر على وجهه بعد أن جلس على الأرض بجوار كرسي أمه المتحرك
وهو يقول:
هل تعلمي ما هو الشعور
المميز في هذه الدنيا يا أمي؟
فريال: ما هو
ديمون: هو شعور لا نجربه غير مرة واحدة في الحياة وهذا هو سر جماله.. هو أن تغمض
عيناك ولا تستطع فتحهما مرةً أخرى.. او بالأدق لن يكون المشغل لجسدك موجود ليساعدك
على فتحهما، أن تصعد تلك الطاقة الغير معروف عنها شيئًا إلى السماء لتترك الجسد
وحيدًا لا يشعر بشيء مطلقًا.. هذا هو أفضل شعور ربما قد يشعر المرء به في حياته..
وهو شعور لا يمكنك أن تجربته مرتين.. هكذا
كنَّا نزين فكرة الإنتحار لمن هنا حتى نستولي على تلك الأراضي، كنتُ اسأل السؤال
لأحدهم مثلًا في صورة صديقه وبطرق غير مباشرة، وتكون إجابتي عن كم أن الموت شعور
رائع، كم هو نعيم، لا أحد يذكر سكرات الموت عذاب القبر والآخرة و... لا أحد يريد
الصلاح لك، هم لا يعرفون كيف يصلحون أنفسهم كيف سيصلحونك.. الموت، هو ذلك الجحيم
المُزين للجميع، الحياةُ لا ترحم أحدًا، لذا أحدًا يريد أن يخرج عن حكمها،
فيهلك...
فريال: لا أعلم كيف أخبرك بهذا لكنني لا أفهم شيئًا مما تقول...
ديمون: الموت.. الجميع يركض نحوه دون أن يدري، من ينتحر يكون شعاره سيحدث في
النهاية على كل حال، فلِمَ الإنتظار؟ لا شيء هنا يدفعني على المزيد.. تلك المشاهد
التي تتكرر على مرئاي بشكل روتيني معهود وكأنه فلم مرعب لا ينتهي، أو أنه لا يريد
ذلك.. رعبه الوحيد هو في السادة الذين اعتادوا المشهد حتى لم يعد يحرك مثقال خلية
عصبيةٍ فيهم.. رأيتُ حتى اكتفيت... أعلم لا تفهمين ما أقصد مجددًا، ما قولته هو ما
تم كتاباته في مذكرات أحد رجال الدين قبل أن ينتحروا هنا في أرض المجهول، كُتِبَ
ما سبق وقولته، ثم سؤال لأحدهم يقول "ماذا رأيتَ لك هذا" ثم إجابة تقول:
لا يسعني ترتيبهم بالأبجدية ولا يمكنني ذكرهم لكني سأطرح الأمثلة..
رأيتُ طفلةً أعتدى جار أبيها عليها، وطفلةً جار الزمن بها، وطفلةً جرجرها المجتمع
حتى باتت كقطعة قماش بالية.
وطفلٍ قتلوا البراءة فيه فبات مسخًا مثلهم، وطفلًا قتلوه هو، لأجل ملئ أنفسهم بما
في الدنيا من ملاذ ترضي شهوتهم، وطفلًا مُلقى على الأرصفة وطفل إن أكل من القمامة
بفضل جوعه وجدها لذيذة تلك الفضلات المقززة..
ووجدتُ شابًا قتله شبابه حين انحرف عن الطريق، وشابًا قتل شابًا كان له خير صديق،
وشابًا يحلم بالنجاح، وآخر قتله الكفاح، وغيره أغراه حمل السلاح..
اعتدى على هذه وتجبر على ذاك، شيء روتيني، لكن المخيف أن يرى فعله الجميع ولا أحد
يتحرك ليردعه، البعض يخشاه والآخر لأجل راحة باله تظاهر أنه لا يراه..
هل ترى الصورة كاملة؟ راحة باله، أن يرى الظلم واقعًا علينا وغدًا سيكون معنا ومع
ذلك يغمض عينيه ويدعي أنه أعمى..
وشابةً اُفتُتِنَة بجمالها فتبرجت، وشابةً قتلتها غيرتها فَفَجَرت وتجبرت، وأخرى
لنفسها ولشيطانها تستمع، ومن تعترض أمرهم يهاجمها المجتمع، لا حياء هنا ولا
مروءة.. نحن عربٌ ومع ذلك لا أرى العروبة!
رأيت عجوزٍ هجر ابناءه حتى بغضوه، وأخر هجره ابناءه حتى على قيد الحياة هو قتلوه،
وغيرهم في القمامةِ ابيهم القوه، وغيرهم فعلوا المستحيل ولم يرضوه..
رأيتُ العالم أزرقًا في الرسم واسودًا في الواقع.. قالوا الحياة رمادية، فمال
الأبيض خاضعٍ، وعن مكانته لا يُدافع.. رأيت قلوبًا تحترق، ورؤوس الشامخين كالطبلِ
أذل القومِ عليها يدق...
ثم جملةً تقاطع الحدث قائلةً "لا ترى فأنا أكتفيت" ثم جملة تجيب: أما
أنا فبالكاد بدأت إن كان ما تبقى من عمري قرون وبت أذكر فيها ما رأيت لأنتهى عمري
وما أنتهيتُ.. لذا سأذهبُ من حيثُ أتيت...
وجدت تلك الكلمات في
مذكراتِ رجلًا كان يُذاع سيطه أنه أقواهم إيمانًا، ووجده شانقًا نفسه في غرفته ذات
يوم، وبالطبع أقتدى به الكثير من الفتيان المندفعين نحو فكرة الإنتحار، فتيانٍ
لديهم ميول إنتحارية غير مفسرٌ سببها وغيرُ مبرر.. فقط جملة واحدة تتردد، أصبته
لعنة الساحر التي أطلقها على المكان، لعنةً تقول: من لن يبع بيته سيأتي دوره
وينتحر أحدًا من أهله، سينتحرُ يوميًا شخص من تلك المدينة، فقط أهجروها..
بالطبع رجل الدين لم
ينتحر، بل قتلته بعد أن كتبتُ تلك الكلمات في منزله بخط يده، كما تعلمين تلك
الهبةِ التي منحها لي الشيطان..[1]
بعد أن إنتشرت الشائعة في الأرجاء، كان يجب عليَّ تدمير عزائم الموجودين، بأن تصيب
اللعنة المُدعى وجودها أتقى الرجال هنا، كان يجب أن أخبرهم أن حتى هذا لا يرى
للعالمِ ضياء، فإن لم تكن هناك لعنة، فهناك أسوء، هناك مستقبلٌ لا نور فيه.
ما قمت به في تلك الأرض أدفع ثمنه إلى اليوم، كلما غفلت عيناي أتتني كل قطرة دماء
أرقتها، مجتمعةً مع بعضها صانعةً وحشًا كبير، مرعب، لا يحاول قتلي، المشكلة أنه لا
يحاول قتلي، بل يُمزق كل من حولي لأشلاء أمام عيني، يُشعرني بالعجز.. حين يحين
دوري، أستيقظ.. لا أنام؛ لأني أخشى الأحلام فالكوابيس وليدتها..
فريال: منزل ذلك الرجل الذي كنت تتحدث عنه الآن..
ديمون: بل أسوء، كانت الغرفة التي شنقتها مكانها بالتحديد هنا، كلما نظرتُ للسقف رأيته معلقًا أمام عيني ينظر لي وهو يقول: لستَ القادم، أمامك الكثير من العناء لتشعر به قبل أن يحين دورك.. أشعر أني.. أني لعنةً لمن حولي، لمن أكترثُ لهم، كلما أكترثتُ لأحدهم فقدته في حلمي، وتحقق ذلك الحلم ما أن استيقظت، لا أريد أن أحلم بعد الآن، لا يجب أن أنام يجب أن أحافظ عليكم قدر الإمكان، يجب عليَّ هذا
[1]
يستطيع تقليد خط أي شخص لمجرد أن يراه يكتب بضعة كلمات ومن المرة
الأولى.. لكن ما لم يعرفه عز الدين، بأن من كان يكتب تلك المقالات لم يكن هو
"عز الدين"
النص مقتبس من رواية المطهر
#الكاتب_الرمادي