حرب باندورا - الفصل السادس

 لماذا قُتِلت، لماذا لم يتخذ أبيه أي اجراء تجاه هذا الأمر لماذا الكثير...

أنهى كلماته ثم أردف قائلًا: وحشتيني أوي يا أمي.. بجد وحشتيني، عقلي لحد دلوقت مش عارف يستوعب أني فقدتك فجأة.. أبويا أستسلم، رفض حتى يدي أي إفادة للشرطة، أو حتى ليَّ مستقبلًا، كل اللي قاله "كما تدين تدان، ودا أحد الديون اللي كان عليا.. يمكن مش هتفهم كلامي يبني دلوقت، أو غضبك هيمنعك من أنك تشوفوا، لكن في المستقبل هتفهم"
 بعد مدة وأنا بقلب في حجاتي القديمة لقيت جواب مكتوب عليه "اقرأني" قريته فكانت كلمات رثاءه، المفروض إن الغرض منه يرشدني.. هو فعلًا أرشدني "كما تدين تدان" اللي قتلك دان، وجا وقت يتدان.. أنا مستعد أموت في سبيل أجيب حقك.. كُنتِ بتحبي كلامه أوي، بس أنا كنت بحبك أكتر وأوعدك هجيب حقك، أنا كل يوم ببص في صورتك وبدخل الأوضة اللي... تذكر ذاك اليوم فبدأ يجهش في البكاء، لم يستطع أن يكمل كلماته حتى.. كل ما فعله وضع السلسلة التي كانت بيده حول رقبته.
كانت يداه ترتعشان بقوة أثر بكاءه، كان متعلقًا بها كثيرًا؛ كانت مئواه الوحيد، ملاذه الأخير حين تضيق عليه الدنيا حين يتنمر الأطفال عليه في الشارع بسبب التشوه الناتج عن ذاك الحريق في وجه..

فلاش باك:
إيڤان: نيڤين، نيڤين
نيڤين: الحق ولادي يا
إيڤان مش مهم أنا
أحمد ببكاء شديد: باباااااااا
كانوا ينادون عليه جميعًا بصراخ، وهو كان يصرخ في الغرفة المجاورة لا يعلم كيف يدخل لهم، هناك حريقًا أمسك شتى أنحاء المنزل، توصل أخيرًا للمعطف الذي كان يرتديه كونه المسخ، فهمو مصمم بشكلٍ خاص كمقاوم للرصاص ولدرجة مرتفعة من الحرارة، ودخل أخيرًا لنيڤين ليخرجها وحاول الدخول مرةً أخرا لأولاده حتى أنقذهم أخيرًا.
كان "أحمد" ممسكًا بأخته "ملك" محتضنها وهو ابن الـ 7 أعوام، ما أن رأى أبيه، حتى أعطاه أخته بسرعة، بينما سقطت الزينة المعلقة في الغرفة على وجه الفتى الصغير، وقد كانت من البلاستيك لتحرق نصف وجه نسبيًا..
مرّ اليوم، وإن كان النجاة من الموت هو السلام، فيمكننا أن نقول أنه مر بسلام شيئًا ما، بعيدًا عن الحروق والخوف والبكاء وكل هذا التوتر الموجود في العائلة، حاولوا أن يقوموا بعملية تجميل له، لكنه صغيرًا بما يكفي لأن يحتفظ بتلك الندبات لفترةً أطول، مع الوقت أعتاد شكلها، ولم يشأ إزالتها ولا حتى محاولة تجميلها، تركها كما هي، يرى أن مظهرها الآن يبدو أكثر جاذبية، تجعل ضحاياة يشعرون بنهايتهم أسرع...
باك.

تسطح على سريره وحاول أن ينام، لم يستطع النوم إلا بعد مدة طويلة، بعد أن انتهت عيونه من عملها الروتيني الدائم منذ ذاك اليوم.. تذرف ماءً مالحًا على فقدان أمه، وحقدٍ واستحقارٍ على خوف وانسحاب أبيه، حتى أنه بغض أبيه بسبب صمته.
.....................
كما ترى سيد "كال" تم تحسين الرؤية الليلة بشكل أفضل.. بت ترى في الظلام كما ترى في وضوح النهار، لكن في مسافة كيلومتر واحد فقط.. حاولنا جعل العدسات البلورية تحتفظ بكم أكبر من الفتونات، وكان هذا آخر ما توصلنا له بدون تشويهات.. وما عليك الآن إلا مزيد من التدريب على استخدامها، بشكل أكبر، نعم قام البروفيسور بأضافة الرؤية الليلية عن طريق الآشعة السينية أيضًا لترى إن كان هناك أحدًا هنا أم لا وبات بإمكانك معرفة عدد الأشخاص خلف الجدران.. هذه عينيكَ التي ستدرب بها وهذا آخر ما توصلنا إليك بها، لكن عندما يحين الوقت سنكون قد انتهينا آخيرن من تطوير الآخرى
- ما الفرق بينهم
= كفرق الدرك الأسفل والفردوس الأعلى.. لكن البروفيسور منعنا من أن نفصح عن أي شيءٍ عنها سيخبرك هو بنفسه...
أما بالنسبة لك مستر "جاك"، تم الإنتهاء من إعادة يدك مرةً أخرى، ستكون أفضل من اليد الطبيعية في حالات وأسوأ بالطبع من حيث عيوب الميكانزم المعهودة.. أضفنا بعد أسلحة الطوارئ.. ولم يعد بإمكانك أن تشير لنا بحركتك المعهودة أخيرًا..
- تقصد هذه
= لا تفعل...
- اللعنة ما هذا
=قبضة يدك افتحها كلها وبسرعة...
- الآن فهمت لِمَ أصريت على أن نأتي لمكان التدريب.. لِمَ لم تخبرني عن هذه الإضافات..
= لأن أحدهم وهبه الرب أذن فيل، ومع ذلك لا يصغي لأحد
- هذا أنا!
= بالضبط...
- مازالت قيد التطوير لكن يفضل أن تتدرب جيدًا على أصبع السبابة الآن، حتى ننتهي من جميع الإضافات في اليد الآخرى بالمعمل...
..............................

كان جالس في غرفةٍ قديمةٍ  لم يدخلها لسنوات عديدة، غرفة "ديمون" معلقًا قناع "المسخ ذو الوجه البريء" على الجدار والأسلحة بجاوره والصور القديمة بدلت بصور عائلته، كان في حالةٍ يُرثى لها، الخمر العتيق بيدٍ وهاتفه باليد الأخرى، كانت في قوائم آخر المهام أدعية كثيرة على ما يبدو أنه أنهى قراءتها، أنها تلك الكأس وبدأ ينظر لصورة زوجته يلومها ويتحدث معها كثيرًا.
بدأ كلماته وهو يهزو كان يقول: كان يا مكان في قديم الزمان كان هناك ملكًا يحكم بين الناس بالعدل، ونظيره من الملوك ظالمًا، حصد العادل أثناء حكمه كثيرًا من التمرد.. كان يسمح بشيء يُسمى "الحرية، ووجهة النظر".. أما الظالم فقد كان مالكًا لفلسفة هم لا يستحقون، فحَكم بكلمةً كـ "القدر".
كثيرًا ما اشتد الصراع بين الملكين حين لقاءهما، وقلما ما خلى الجدال من كلماتٍ لا يفهم معناها الجمهور، كانت أكثر الكلمات غرابةٍ في عمقها...
دعني أقص عليكِ الموقف كاملًا
قال الأول للثاني: ما يهدمك هو رأفة قلبك وديمقراطيتك الساذجة يا هذا
فرد الثاني: أخرس أيها الديكتاتور الأحمق، أنا ابني لدولتي كل ما طاب ولاذَّ.
بعيدًا عن موقفهما من بعضهم، كانت الكلمتان في نطقهم كلماتٍ مبتذلة، إلا أن كل منهما يحمل في كينونتهِ مصطلحاتٍ كثيرة، كلماتٌ تشمل معنى اسمى مما تبدو عليه.. ففضلت سموها أن تكون مبهمةً لفترةً أطول.. ربما تود الظهور لمن يستحق، ربما.
مرت الأيام سريعًا، ذهب الملك العادل لرب السماء، زُهقت روحهِ ممن كان يبغى سلامهم، تمردوا ضده ذات مره، فقتلوه، والظالم على عرشه متوجًا مالكًا زمام الأمور، والقوم يطيعوه.
ما لم يفهمه الملكُ العادل أن في عدله ظلم، وأن الظالم في حكمه يدعوا للسلام، كان دائمًا يردد الديكتاتور، الحرية جريمة في حق الإنسانية إن مُنحت لقوم من الرعاع، يَسهل التحكم بهم، فكان من الأولى أجبارهم على تعلم معنى الحياة أولًا، قبل تمهيد الطريق لهم بأن يحيوا، على الأقل حين يثوروا عليك كقائد لقطيعهم، يكن هذا قرارهم، من تفكيرهم وفلسفتهم الخاصة، يعلمون "فلسفة ماذا بعد؟"..)
أخبرتكِ سأمنحه الحرية إن أستحقها، رهانتِ على إستحاحقه لها، وماذا فعل بالمقابل، أتى لينتقم، أتى ليقتل من حررتهُ بفلسفتها الساذجة اللعينة، قتلك.. أو على الأقل حاول.. أتذكرين يوم الحريق، لقد كان الفاعل، بعث براجله قبل أن أقوم أنا بنفله ولا أعلم رغم أنكِ تعلمين، لازلتِ مُصرة على إخراجه!
 لولا أنّي أجيد قراءت الأعين جيدًا، لظننتكِ مُعجبةً به على الأقل، لكن لا أعلم كانت عيناكِ فارغتان من المشاعر تجاهه، أو ربما فارغتان، فقط فارغتان، لم أستطع تقدير الموقف، عجزتُ عن قراءة مشاعرك حينَ طلبتي مني تحريره مجددًا، رغم السجن الذي وضعنا هو فيه.. سجن أن يكون شخصك العزيز حزين، ولازلت أعجز عن فهم السبب، لماذا؟
لِمَ اصريتّي على أخراجه مما أقحم نفسه فيه، لِمَ؟ رغم كل ما فعله، ورغم كل ما أخبرتكِ به، ماذا رأيتِ فيه، لتراهني على حياتك من أجله، رغم الغدر والمحنة التي مرَّت أختك بها بسببه، ولا، لا، لا تقولي أنها ساذجة لدرجة أنه أحكم تقييد قلبها بإسمه، ما فعله قادر على فك سلاسل الجحيم... لا أفهم!
رغم كل الشكوك المحيطة بي عزيزتي لازلتُ أحبك، أعتذر أني حين آتي إليكِ كثيرًا ما أكون خالٍ من كل شيء، مُثلجًا تمامًا، لكن يصعب على عقلي تجميع كل هذا دُفعةً واحدة، والكارثة أني كلما حاولت أن أنظر في كل خيط مُنفردًا، تتشابك الخيوط ببعضها مجددًا بشكلٍ معقدٍ أكبر.
أنظري حولك الآن، أنظري لنفسك، عشر سنوات، عشر سنوات وأنتِ في حكم الأموات، تحت التراب كما يقول ابنك دائمًا، ولا لا تلومينني ولا تلوميه، فهذا ما يراه فعلًا، حين يريد الحديث معكِ يذهب لقبركِ، جعلتي كل خطوة من خطواتي لها ترتيبات ماهولة، نتائج مرعبة، حتى في زيارتي لكِ أصبح لا يمكنني حتى لومك، لن تتحملي كل شيئًا دُفعتًا واحدة، لو أنكِ وافقتِ فقط على التخلص منه حين أخبرتك، على الأقل، كانت ستسهل مهمتنا.. لكن ما يُفجر عقلي حقًا كيف وافقتي على ذاك الطلب بتلك السلاسة اللعينة، لم تترددي، كيف كُنتِ لي في هذا الأمر معينةً..
لم أرى الرفض في عينيكِ قط، لا يمكن أن تكوني مصابة بنفس إصابتي، لا يمكن.. حتى أنا لم استطع أن اُصاب به، أنا اتظاهر فقط، هناك شيء أكبر تُخفينه، كان هذا واضحًا حينَ رفضتي قتل تلك الطفلة.. كلما اقتربتُ منكِ أرى هالة تخرج من جسدك مغلفةً بالضغينة والكره كبركان ثائر يوشكُ على أن ينفجر.. لا أعلم، فقط لا أعلم.
(دخلت عليه فتاة فاتنة، تعلمونهم جيدًا، نعم إنها مارسلين، دخلت عليه الغرفة، وجدته يبكي كعادته كل يوم، أصبح يشعر بالضعف مؤخرًا، كان يبكي لأسبابًا كثيرة، المهمة كانت أصعب مما يتصور، لم يكن يعلم أن الأشواك التي زرعها من أجل خروجه، كانت ستُصيب العالم أجمع بلعنة ساحقة كتلك.. لم يكن يعلم أن انتزاعها مجددًا سيكون صعب لهذا الحد، صعب لدرجة أنّه يرى كل يوم مئات من الضحايا، ضحايا بريئة لا ذنب لها، ولا يستطيع ردعهم.
يرى توقيعه على جثة كل طفل سُفِك دمه، وفتاة هُتِكَ عِرضها بسببه، لم يكن يعلم أن هناك في هذا العالم ما يفوق عائلة ميدنس جنونًا وتجبرًا، كان يرى أشياءً كثيرة له شأنًا كبيرًا بها، رغم أن نواياه كانت حسنة.. ويزيد على ذلك تلك المشاعر الدخيلة على قلبه القادمة من زوجته وحبه، لم يعد قادر على تلك الملحمة)
دخلت مارسلين عليه، فرأته على حاله، حزينًا يشعر بالفتور، ووجه يقول أنه ربما سيحاول الإستسلام، بدأت مارسلين حديثها وهي تقول: تبدو وكأنك تشعرُ بالندم
فبادلها الإجابة وهو يقول: لا.. أنا فقط كثيرًا ما أفكر، بأي ذنبٍ قُتلت
فأجبته وهي تقول: أخبرتك بهذا من قبل، لكنك كنت منطقيًا أكثر من اللازم، فعلتَ الصواب، كان لابد من التضحية..
 سمعها وعاد يبكي مجددًا ثم أكمل بصوت خافةً وضعيف وهو يقول: الأمر الوحيد الذي لا أعلم كيف سأواجههم بهِ، أو كيف سأخفيه لفترةً أطول، هو كيف سأخبرهم أني من قتل بنيتي "ملك" كيف سأقنعهم أنه كان لابد من تضحيةً كبيرة؛ من أجل هذه الحرب، ومن الجانب الآخر، كيف تتحمل عزيزتي فراق العائلة وكل الأحداث الحديثة التي حدثت دُفعةً واحدة مؤخرًا، وفي نفس الوقت، كيف سيستوعب ابني كل هذه الأمور دون أن يفقد صوابه أو أن يتسرع ويدمر كل ما ضحيتُ من أجله؟
كيف سأقنعه أن قبر أمه هو قبر أخته وأن أخته التي يصاحبها ليست أخته، كيف أخبره أن أكثر فتاة حرص على أن لا ينظر لها أحدًا نظرةً في غير محلها غير موجودة بالمرة، وقد ماتت منذ عشر سنوات بالضبط؟ وأن أمه التي رآها مُختنقة هي أخته؟ لا أعلم يا مارسلين، لا أعلم، ولا يمكنني حتى تخمين ردة فعله إن عَلِم.
= عذرًا سيدي، لكن ماذا ستفعل إن فشلت مهمتنا
الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم