و دقت العاشرة لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى ابنة الشريف الفصل التاسع "لم يفق"
(9) لم يفق.
لم يفتح عينيه بعد و اختفى، تركني بمفردي بين جنبات غرفتي ابكي عليه دون سبب، مَن أنتَ أيها الطيف الغريب؟! و لما زرتني؟!
وقفت شادن تنظر إلى السماء الزرقاء الصافية، و في عينيها بريق غريبٌ، لم يستطع من يراه تحديد ماهيته، أكان طرحًا أم فرحًا؟! لا أحد يعلم.
اتجهت إلى خزانة الملابس، و أخرجت ثوبًا أبيضًا طويلًا، و بدلت ثيابها و ارتدت حجابها و أخذت تلك الحقيبة السوداء و ارتدت حذائها بهدوء شديد، و هبطت إلى أسفل و ما إن رأتها والدتها على تلك الحال حتى اقتربت منها بقلق و توجس قائلة...
-خير يا شادن على فين؟!
-رايحة المشفى يا أمي، هزور المريض إللي والدي بيعالجه..
قالتها و هي تتجه إلى باب المنزل، همت شاديه بمنعها لولا صوت جدتها الحازم..
-سيبيها يا شادية، زيارة المريض واجب.
لم تستطع الرفض أو حتى الاعتراض على كلمات حماتها، نظرت شادن إلى والدتها و على ثغرها ابتسامة هادئة قائلة...
-مش هتأخر بإذن الله.
أغلقت الباب خلفها و سارت بخطى متئدة في شوارع القرية، و فجاءة وجدت أمامها الشيخ أحمد بطلته الرجولية الهادئة، فنظرت له قائلة بهدوء...
-اذيك يا شيخنا، عامل ايه؟!
-الله يسلمك من كل سوء يا شادن، أجابها الشيخ و هو يغض بصره عنها..
-كلامك اتحقق يا شيخنا و القريب بعد.
أنهت جملتها و تركته واقفًا مصدومًا هذه المرة، سارت بثبات رغم ما تشعر به من حزنٍ، نظر لها بهدوء و ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة قائلًا...
-الاختبار مفيهوش اختيار.
كانت تنظر في وجوه الناس بهدوء، تبتسم مرة و تبكي مرة، نظرت إلى تلك السيدة التي تناهز والدها في العمر تقريبًا، ذات البشرة الصفراء و العينين الزرقاء و الأنف الأفطس و الشفاه الرقيقة، ثم حولت بصرها عنها و سارت في طريقها إلى أن اقتربت من مكان تلك السيدة، كادت أن تعبر لولا تلك الكلمات التي أثارت حفيظتها..
-إيه يا بنت المصراويه مفيش سلام...
-السلام لأهل السلام يا طنط، قالتها شادن بهدوء و هي تنظر إليها بحدة.
-قلة الأصل دي واخدها من أمك، أم البنات، قالتها تلك السيدة بسخرية، فنظرت لها شادن بهدوء قائلة..
-و الله أمي اتجوزت أبويا، و جابت بنات، و حضرتك ما عرفتيش تتجوزيه و جبتي بنات، بس تربيه عن تربيه بتفرق.
أنهت جملتها و تركتها واقفة كما الطفل الذي تبول على نفسه وسط
الناس، قالت كلماتها دون أن يهتز لها طرف و سارت بهدوء محدثة نفسها بكل فخر رافعة رأسها بين الناس باعتزاز و لسان حالها يقول
-نعم أنا ابنة أم البنات، ابنة تلك السيدة التي عشقها والدي و تزوجها و أتى بها من القاهرة إلى قرية الرحبة طو رضيت بذلك حبًا فيه، أنا ابنة تلك المرأة التي خرجت له من مياه النيل عروسًا مغلفًة بطميه البراق، و من متحف اللوفر بباريس، ابنة تلك الجميلة التي هوست الرجال بحسنها الأخاذ، و أسرت القلوب بكلماتها الهادئة.
كانت تسير رافعة رأسها بفخر، و الجميع ينظرون إليها بإعجاب، و تلك المرأة تكظم غيظها، و تعض على يديها من شدة غيظها..
-شايفه يا أم هاني البت بترد ازاي؟!، دي مش متربيه..
-و الله ما عارفه مين إللي مش متربي أمسكي حاجتك و روحي على بيتك يا أم شجن و شيلي البت و أمها من دماغك..
قالتها تلك السيدة التي تعقد الطرحة على رأسها كما تفعل نساء الصعيد، و هي تمد يديها بمشتريات تلك المرأة، أخذت المرأة ما ابتعته و عادت إلى منزلها و هي تقسم بأن تنتقم من تلك الصغيرة و أمها.
خطواتها مثل وقع قطرات المطر في ليلة شتوية لعازب وحيدٍ، عودها كما الخيزران تداعبه الريح، حمرة وجهها كما الجورية في فصل الربيع، عينيها كعيون غزال طريد، سوداء صافية كصفاء سماء الصيف في ليل بهيج، رشيقة القد الأثير، كانت تسير بهدوء إلى المشفي و فجاءة رأت جارها عمرًا بصحبة عماد فغضت بصرها، و سارت بهدوء و لم تلق تحية، نظر إليها عمر بهيام، و لم ينطق ببنت شفه و اكتفي بالشرود في حياءها الشديد.
-مالك يا صاحبي، البت كلت عقلك و لا إيه؟!
-كلته بس يا عماد، هو أنا بقى فيا عقل يا صاحبي؟!، قالها ذاك العمر و هو ينظر إلى ذاك الطريق الذي سلكته و اختفت فيه.
-تفتكر هي رايحه فين كده؟!، سأله عماد بهدوء و هو ينظر إلى طيفها الذي لاح يلوح لهما في نهاية الطريق
-أعتقد إنها رايحه المشفى لوالدها يا عماد..
-ربنا يحفظها و يحميها يا عمر
-اللهم أمين.
سارا الصديقان بحوار بعضهما البعض بهدوء شديد، و كل منهما يفكر بصاحبة الثوب الأبيض الجميل.
وصلت شادن إلى المشفي، و دخلت و طلبت الإذن في زيارة باسل المغاربي، و ما إن دخلت إلى الغرفة حتى جلست بجواره بهدوء شديد و مسحت على جبهته قائلة..
-مش عارفه إن كنت هتسمعني و لا لأ بس متأكدة إنك هتوفق بإذن الله، أنا منتظراك حتى آخر يوم في حياتي يا باسل.
كان ذاك الطبيب النفسي يمر بجوار المكان فلاحظ وجودها و وقف يراقب تصرفاتها، و أحس بأنه قد ظلمها بكلماته في المرة السابقة، فتح الباب و دخل بهدوء شديد...
-أنا أسف إني دخلت بدون استأذان، لكن حابب اعتذر منك على كلامي...
رفعت عينيها و نظرت في عينيه بهدوء شديد، فصُدم عندما رأي دموعها تنساب على وحنتيها..
-بتعتذر على إيه، أنا فعلًا كنت بضحك عليك..
قالت كلماتها و هي تمسح دموعها بظاهر يدها، وقفت بثبات أمامه و ثقة غريبة...
-عن إذن حضرتك..
قالت كلماتها و غادرت الغرفة، بينما ظل ذاك الطبيب واقفًا مشدوه الفم، مصدومًا من تصرفاتها.
خرجت شادن و اتجهت إلى خارج المشفى و أخذت تسير في شوارع القرية بهدوء...
-أنا مين، جايه منين، و إيه إللي بيحصلي ده؟!، باتت الأسئلة ترواد عقلها و تبحث عن أجوبة لها بقلق..
-أنا الغزال، الغزال إللي الكل عايزه يقع في الشباك، و ما يعرفوش إن الغزال وقع في شبكة صياد غريب من زمن.
أجابت نفسها بهدوء و هي تسير في شوارع الرحبة..
-يا ترى يا رحبة هشوف فيكي إيه تاني، و مين هيدخلك من جديد، و لا أنا هفارقك و لا إيه الحكاية؟!
لم تجد جوابًا، سوي صفصفة أغصان الشجر و أصوات الرياح التي تمر عليها بهدوء، آهٍ لو كانت تلك القرية بشرًا تستطيع الحديث معه فيجيب، قادتها قدماها إلى ترعة الماء المتصلة بالأراضي الزراعية، اتجهت إلى هناك و وقفت على حافتها بهدوء و أخذت تنظر إلى
السماء بحزنٍ..
-تفتكري الدنيا تستاهل نزعل علشانها؟!
سألها ذاك العجوز ذو البشرة الخمرية اللون و العينان الضيفتان البنيتان، و الوجه المستديرة المملوء بالتجاعيد، بعباءته الزيتية اللون، فنظرت له بهدوء قائلة...
-و هنزعل علشانها ليه، ما هي دايره براحاها على الكل...
-ربك إللي بيديرها، إنما هي واقفة يا بنتي و عمرها ما بتدور بحد..
قال الرجل كلماته و جلس على الأرض أمام تلك الترعة بهدوء شديد و أمسك بالحجارة، فجلست بجواره شادن قائلة...
-يعني إيه كلامك يا جدو؟!
ألقي بتلك الحجارة و قذفها في الماء فشكلت تلك الإيقاعات المهتزة، ثم نظر إليها قائلًا...
-يعني الدنيا مش هي إللي بتتحرك بنفسها و إرادتها، في مين بيحركها، في قدر مكتوب و إللي انكتب على الجبين مسيره في يوم هتشوفه العين.
-ما احنا مؤمنين بالقدر يا جدو...
-يبقى لازم نسيب كل حاجة للقدر يا بنتي...
-بس ربنا قال اسعي يا عبد و أنا أسعى معاك، قالتها شادن و هي تنظر إلى ذاك العجوز، فابتسم العجوز و نظر إلى المياه قائلًا...
-ده كلام الناس الجاهلة يا بنتي، مفيش حاجة اسمها اسعي يا عبد و أنا أسعى معاك، احنا بنسعي ليه هو، لطريق الحق إللي رسمه يا بنتي، و أنتَ و نصيبك في دنيتك..
نظرت له شادن بهدوء قائلة...
-تقدر تقولي يعني إيه حب يا جدي؟!
-الحب حب جمال الخالق، التأمل في بديع صنعه، الحب كما المرايه يا بنتي بتعكس روح إللي ماسكها، أعلى درجة فيه حب رب العالمين، حب الطريق إللي بيأدي لجنته و نعيمه، حب الرسول و أهل بيته، حب الأب و الأم الغريب قبل القريب، الحب وردة في بستان مليان ورود و زهور علشان تحصل عليه لا بد تستحمل شوكه.
أنهى جملته و قام ذاك العجوز و اتجه إلى الطريق، بينما أمسكت شادن بالحجارة و ألقتها في الماء و أغمضت عينيها و أنصتت لصوت تلك الاهتزازت قائلة...
-ما أجمل هذا الصوت و أعذبه، كأنما يعبر عما يجول بداخل روحي، كأنما هو اهتزاز لذكرياتي التي تخبو مع الوقت، يا إلهي ما أبدع صنيعك في خلقك و ما أعظم ما خلقت.
قامت و اتجهت عائدة إلى منزلها و في الطريق قابلت الحاج سعيد صاحب محل الحلويات، فأخفضت رأسها و حيته قائلة..
-اذيك يا أونكل؟!
-الله يسلمك يا غالية، استنى أخلي عماد يوصلك...
قالها الحاج سعيد و على ثغره ابتسامة، فنظرت له بحياء قائلة...
-مفيش داعي يا أونكل، الدنيا نهار..
-و الله أبدًا ما يحصل..
-يا عماد، يا عماد، تعالي وصل شادن للبيت..
كان عماد يرتدي بدلة كحلية اللون، و جرافته بيضاء مزركشة بتلك الدوائر الكحلية، نظر إليها بهدوء قائلة...
-حاضر يا والدي..
اقترب منها قائلًا و هو ينظر إلى الأرض..
-اتفضلي يا أنسة شادن..
-ممكن حضرتك تمشي قدامي و أنا همشي وراك إذا سمحت..
قالتها و قد احمرت وجنتاها من شدة الخجل، فابتسم ذاك العماد قائلًا..
-زي ما حضرتك تحبي.
سار أمامها و سارت هي خلفه و في الطريق تحدث عماد معها بهدوء قائلًا...
-تعرفي عمر؟!
-عمر مين؟!، أجابته بحيرة..
-ابن جاركم أستاذ عثمان..
-قصدك الباشمهندس عمر، آيوه بس مليش كلام معاه، قالتها و هي تخفض رأسها بخجل..
- إيه رأيك فيه؟!
-و هو يهمني في إيه علشان أدى رأي فيه؟! أجابته بحدة فابتسم بهدوء و صمت عن الكلام، و بعد مرور عدة دقائق وصلا إلى منزلها، و دخلت و أغلقت الباب بهدوء، و هنا رأي عمر عماد و صُدم، و هبط من بيته راكضًا باتجاه الشارع و ما إن وصل حتى وقف أمام عماد بقلق قائلًا...
-هي كانت جايه معاك ليه؟!
-ما تخافش كده، مفيش بنا حاجة والدي شافها ماشيه لوحدها و حلف لأوصلها، أجابه و هو يضع يده على كتفه، فاطمئن قلبه و هدئ.
سار عماد عائدًا إلى منزله، و هو يفكر في تلك الغزالة الصغيرة و فجاءة قابل شجن أمامه، التي ما إن رأته حتى اقتربت منه قائلًا...
-اذيك يا دكتور؟!
نظر لها بهدوء مصطنع قائلًا..
-الله يسلمك يا قمر..
-حضرتك عامل إيه؟!
-بخير، بقولك إيه تعرفي شادن؟!
-بنت المصروايه؟!
نظر لها بهدوء قائلًا و هو يغمز لها بعينيه...
-ما تجيبي رقمك يا قمر كده علشان نبقى نتكلم..
-اكتب عندك..
دخلت شادن إلى المنزل لتفاجئ بوالدها أمامه و الغضب يملئ ملامح وجهه...
-خير في إيه؟!
-و منين هيجي الخير و بنتي إللي رافع راسي فيها نزلته في الأرض، قالها و هو يهب واقفـا و وجهه محتقن بالدماء و الشرر يتطاير من عينيه...
-لا عاش و لا كان إللي ينزل راسك في الأرض يا بابا، قالتها و هي تقترب منها و تضع يديها على كتفيه قائلة بثبات..
-طول عمرك راسك مرفوع..
-هرفعه ازاي بعد ما شتمتي أم شجن و الناس قالت عليكي مش متربيه...
قالها و هو ينظر لها بعتب، ضحكت شادن بسخرية قائلة....
-أنا شتمتها، يخربيتها، تغلط فيا و تتبلي عليا، ثال ضربني و بكى سبقني و اشتكي...
-يعني أنتِ ما شتمتيهاش يا شادن؟! سألها أسامة بحيرة..
-لأ، و بعدين هي إللي رمت عليا كلام عامل زي السم..
-في حد يشهد بده...
-طنط أم هاني، و كل إللي كانوا في السوق يشهدوا بده..
قالتها بثبات، و نظرت في عيني والدها قائلة..
-قالت إني أم البنات و إنها ما عرفتش تربى، و قالتلي يا بنت المصروايه...
أخذ أسامة يضحك من كلمات شادن، فنظرت له شاديه بغضب قائلة.
-إيه إللي بيضحك يا أسامة و لا حنيت؟!
-حنيت إيه بس و أنا من غيرك يا جميل اقدر أعيش، قالها و هو يقترب منها فاحمر وجهها خجلًا، فقرصها من وجنتيها قائلًا...
-يا ما نفسي أكل التفاح....
-احم احم احم، قاطعته شادن بصوتها ثم أضافت قائلة..
-في بنوته واقفه هنا على فكره يا جماعة، و عيب كده...
تنحنح أسامة و نظر إلى شادن قائلًا في محاولة منه لتغيير الموضوع..
-تاني مرة ما ترديش عليها؛ علشان ما تعملهاش حجة و تنطلي كل شوية..
-حاضر يا سي بابا..
قالتها و اتجهت إلى غرفتها، و هنا اقترب أسامة من شاديه و كاد أن يقبل رأسها، و فجاءة سمع صوت ذاك العكاز فنظر إلى مصدر الصوت قائلًا...
-كده ما ينفعش، عايز أصالح مراتي الله يا أمي بقى...
-خد مراتك و اطلع على أوضتك يا كلب..
-مقبولة منك يا ست الكل.
نظر أسامة إلى شادية و أخذها و اتجه إلى غرفته بهدوء، نظرت لهم تلك العجوز قائلة..
-ياااه، أيام ده أنا كنت بخلي حسين يلف حوالين نفسه كده علشان أصالحه، مش زي الموكسه مرات ابني...
دخل أسامة الغرفة و أغلق الباب و قبل رأسها قائلًا....
-أنا أسف لو كنت ضايقتك..
-و أنا عمري ما أضايق منك أبدًا يا أسامة.
يا جورية الحب الحمراء العبقة، ما أجمل شوكك في أناملي، و ما أعذب دمائي التي أغرقت الفرع، عطرك مثل الخمر إن انتشيت من رائحته ذهب العقل و ساد القلب، ناعمة مثل الخد الأسيل النضر، لتبقى رمزًا سائدًا للحب يا ورد الجوري الناعم الورق.
و دقت العاشرة
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى
ابنة الشريف