سجينة المرآة - قصة قصيرة


شعور الوحدة الممزوجة بالفراغ الداخلي أصعب ما قد يمر بهِ المرء.
الشعور الذي يتملك مِنكَ مصحوبًا بالرغبة تِجاه فعل شيءٍ ما، وفي الوقت ذاتهُ يكون لك مثل الُغز، غير مرئي ومرتديًا قناع المجهول (أيعقل أن المرء ينجرف فضولهِ وشغفهِ وراء سراب؟!).
- ما بكِ؟ لِمَ تنظُري إلي هكذا؟ ألا تُصدقين أن بإمكاني التحدث إليكِ ببساطة؟
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. 
صوت ضحكات متتالية في المكان بأكملهُ؛ مما جعل الرعب يدُب في قلبِها.
- هل تخافين مني لهذه الدرجة؟
- لا، ولِمَ أخافُ منكَ؟
كانت تشعر بالملل وهي تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي –مثل– الواتس أب تارة، الفيس بوك تارة أخرى وغيرهم دون فائِدة؛ فبرغم من إنها تمتلك خمس مائة وعشرون رقم على هاتفها إلا وإنها لم تجد شخص واحد تستطيع محدثتهُ بعد، وأثناء شرودها قد انقطعت الكهرباء، حينها همهمت وهي تردف قائلة:
- الأمر كان ينقص الكهرباء أيضًا.
نهضت من الفراش وهي تُضيء الفلاش الخاص بهاتفها لكي ترى ما السبب في هذا، وأثناء سيرها من أمام المرآة جذب انتباهها ذلك الصوت الذي يخرج منها؛ مما جعلها ترتعب قليلًا، وتلك الفجوة السوداء . . .
- ولكِن كلامكِ، عيناكِ، رعشت يداكِ، صوت دقات قلبكِ المرتفع وانفاسكِ المتقطعة تقول شيءٍ آخر.
- أنك تتوهم، أو قد يكون هذا من أثار النوم علي.
ارتفع صوتهُ قليلًا وهو ممزوج بالغضب الهادئ وقال:
- أنه النوم إذًا! ولكِن كيف وأنتِ لم تستطيعين النوم منذُ يومين؟! 
 - لا شأنًا لكَ، ومن أنت؟
ارتسمَ على ملامحه معالم الخبث، ومن ثُم قال:
- أنا من تبحثين عنهُ منذُ أسابيع.
صمتت لوهلة وهي تحاول استيعاب كلماتهُ، ويجول في خطرها سؤالًا واحدًا فقط، وهو: أيعقل أن يكون حقيقة؟ ولكن كيف؟!
تداركت الأمر عندما نشلها من شرودها . . .
- هل مازالتِ تُردين رؤية هيئتي الحقيقة؟ أم أن صوتي الذي يُرعبكِ يكفيكِ؟
- لِمَ ظهرت لي؟ وماذا تُريد؟
- ظهرت لآن حالكِ يشفق عليهِ، تعيشين وسط عالم مليء بالبشر والأصدقاء الكثيرون؛ ومع كل هذا فأنتِ وحيدة، كُنتِ تهربين من الفراغ إلى البحث عني؛ ألم تشعرين بالخوف للحظة؟
لا أريد شيء؛ فـأنتِ التي تُريدين مني وليس أنا. 
 كان يتحدث وهو يخرج من المرآة مقتحمًا سجد ذلك الباندا الضخم، الذي ما إن استحوذ عليهِ قام بالتقرب منها، وهي كانت تتراجع إلى أن ارتطما ظهرها بالحائط وظل واقفًا يتأمل ملمحُها، وهي تقول:
- هذه حياتي وأنا أحبُها هكذا، وأعلم أن هذا ليس السبب الذي جعلك تظهر لي، ولكن أليس من الغريب أن تسأل سؤالًا أنت تعرف أجبتهُ جيدًا، تعالت ضحكتها ثُم أكملت، أنا لا أريدك في شيء لقد علمت كُل ما أرغب بهِ.
- سبب آخر! 
- دفعتهُ بكل قوتُها، ومن ثم تحدثت بكل شجاعة وقالت: بالطبع، أتظن أنني ساذجة لهذه الدرجة لكي لا أعلم بمحاولاتك في التلاعب بي وضلالتي عن عبادة الله؟! حتى انقطاع الكهرباء أنت السبب في.
- لقد تحولت القطة الجبانة إلى أسد يتحدث بقوة.
- قالت بكل سخرية، هل تعلم إنك قرينٌ أهبل ومغفل؟!
لا تندهش كثيرًا فحقًا أنت أبله، أنا أعلم كل شيء يخصك وكل ألاعيبك على عكسك تمامًا؛ فـ تتظاهر إنك تعرف كل شيءٍ عني وأنت في الحقيقة تعلم ما أُريدك أن تعلمهُ، والفتاة الجبانة والضعيفة التي كانت ترتعب من أقل الأشياء؛ لم يكن هذا إلا مشهدًا صغيرًا لكي أُريك أن الجان لا يستطيعون التحكم بالبشر، وأن قوة أيماني بالله كانت الحصن لي من كل سوء وشر، أنت لا تستطيع أن تعلم الغيب، مع ذلك تؤثر على المرء؛ ولكن بسبب معرفتك بنقطة ضعفهُ وميلهُ للشيء فقط لا شيءٍ آخر، حينها تبدأ في التلاعب بهِ وتزين لهُ كل ما هو خاطئ والله نهانا عن فعلهُ، في الحقيقة فأنت أمام آبن أدم  أضعف من النملة، رغم كل ما وهبك الله أيها من قدرات وقوة خاصة.
بعد أن راه كل القوة والعند في عينيها، وكم شعر أنه قد يكون مغفلًا حقًا؛ خرج من جسد الباندا وهو يعتري الغضب وليتدفق بداخلهُ الغل والحقد، وكأنه يُكرر الانتقام ومعاقبتِها من سخريتِها بهِ ومن أهل الجان بظهورهُ لها على هيئته الطبيعية والأكثر قسوة، وتضخم جسدهُ وعيناه التي انقلبت مع تكاثرها، فيضان الدمان منها، مع لونها الأسود من غسق الليل الكاحل وصوتهُ الذي ازداد ثوران وغضب، وهو يردف قائلًا: كُنت أتعامل معكِ بالحسن ولكنكِ تماديتِ كثيرًا، وقد أتى الوقت الذي ستدفعين فيهِ الثمن، وتتعلمي كيف تتأهبين وتحترمين وجودي وتخضعي لي، وعليكِ أن تعلمي إن سبب ظهوري لكي حقًا، هو: عشق دهار لكي وهذا يكون إحدى أفراد أهل الجان السفلي، سيكون هذا العشق كظلكِ أينما ذهبتي ولا تحاولين الخروج منهُ؛ لأنهُ يجتمع فيهِ عشق الروح والجسد مزيج من أسوء الأنواع عشقًا، وفي تلك اللحظة لن يستطيع أحد أن يُخلصكِ من قرب العاشق لكي.
وأثناء حديثهُ أشعلت الغرفة بالنيران، مع كل كلمة كان يتفوه بِها كان يزداد غضبهُ؛ مما يجعل النيران تتوهج أكثر وتأكل في الأساس وتُزيد من ارتفاع درجات الحرارة، وبعدما انتهى قد ظهر لها مسخ مخيف، أبشع ما قد تراه عين إنسان على الوجود، ولوهلة شعرت بالعجز والرعب مع رؤية مشاهد كثيرة قد صورها  عقلها لها؛ حينها أدركت أن الموت في هذه اللحظة سيكون أفضل مئة مرة مما سيحدُث لها، ولكنها تذكرت كلام أبيها عندما كانت يقول: إن الشيطان ضعيف أمام القلب القوي بالإيمان، وكان يفر هاربًا من أمام أمير المؤمنين عمرو بن الخطاب ويسلُك طريقًا معاكس لطريقهُ؛ لأنه كان يهبهُ كثيرًا، وتلقائيًا أغمضت عينها وهي تُرتيل سورة البقرة بتمعن، فـفي النهاية هي قد ختمت كتاب الله أكثر من مرة، والأقرب إلى قلبها سورة البقرة.
كانت تقرأ دون الاكتراث بالأصوات التي كادت أن تُهدم المنزل من شدتُها، ظل على حلها إلى أن شعرت بالاستقرار في الحالة الجوية، وبدأت تدريجيًا أن تفتح عيناها وحينها رأت المكان مُرتب وهادئ وكأن لم يكُن هناك معركة منذُ بضعة دقائق فقط، ابتسمت وهي تشكر لله على عدم أصبتُها بأي مكروه، ولكن هذه الابتسامة لم تدوم كثيرًا وأصبحت تتلاشى رويدًا رويدًا عندما رأت أن الجدار الذي خلفُها كُتب عليهِ (هذه لم تكون إلى البداية فقط، وإن العاشق لن يترك معشوقة لأي حد سواء كان من أهل الأنس، أو أهل الجان حتى وإن كان تحت خضوع عنوان الزواج).
وبعدما انهت قراءة العبارة أطلقت صرخة قوية على أثار تحطيم المرآة دون سبب.!
- وماذا حدث بعد هذا اليوم يا جدتي، هل عادَ كمَ كتب لكِ؟
- لا لم يعود، وبقيت كم يوم في حالة لا يرثى بها، ومن بعد هذه الحادثة قبلتٌ جدك وتزوجني، وبعدها أتى والدك ومن ثم أنت، أنهت جملتُها بضحكتُها الجذابة التي تسحر كل من راها.
- هل تعلمي يا جدتي إن دهار معهُ حق في أن يقع أسير عشقكِ.
- ردت عليهِ بضحكة، بل أعلم أن سام هو أكبر مُخادع في العالم.
- لا، لم أخادع أو أجامل تلك المرة.
- هل تعلمت الدرس في النهاية؟
- أجل.
- جميل، فلتذهب إذًا لكي تستكمل حفظ القرآن.
- حسنًا جدتي إلى اللقاء.
- إلى اللقاء عزيزي.
بعد مغادرتهُ وقفت أمام المرآة وهي تُمشط شعرها وترى جمال وجهِها الذي لم يؤثر عليهِ العمر بعد؛ ولكنها لم تلحق، وقد انشقت المرآة وسُحِبت بداخلها وهي تسمع تلك الكلمات (لقد حان الوقت وعاد العاشق ولو بعد حين).
لـ أسماء عصمت..♡
الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم