ودقت العاشرة - الفصل الخامس

 رواية ودقت العاشرة لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى _ابنة الشريف
(5) مريضة نفسية
تشعر و كأن الدنيا قد ضاقت في وجهك و توقفت أمامك و تمتعت عن السير، تتمني لو أن الأرض انشقت و بلعتك دونًا عن الجميع، تسير في طريقك و أنتَ تأمل أن تلتقي بالحبيب، لكن الحبيب بعيد، تحمل نفسك ذنبًا لم ترتكبه و في النهاية تكتشف أنك برئ. 
واقفة تنظر إليه بتوتر و قلق، تخشي مما سيفعل، لكن عقلها أوقف الزمن من حولها ليطرح سؤالًا "ما الذي يستطيع ذاك الطيف فعله؟!"، نظرت إليه فلم تجد الجواب، رأت الخزي واضحًا في وجهه، اتجهت إلى باب الغرفة و فتحته بهدوء أمام ناظري والدها الذي تيقن بأنها ترى شيئًا و لا تود إخباره عنه، فسحب نفسه من المكان في صمت، دخلت و توقفت أمام ذاك الطيف و نظرت له بهدوء قائلة... 
-مالك؟! 
كانت كلماتها بمثابة الشرر الذي أشعل بداخله نيرانًا كانت تحسبها مخمده، صرخ في وجهها قائلًا....
-مالي؟!،مفيش كل إللي في الموضوع إن مش عارف ارجع لجسمي، كل إللي في الموضوع إني هكمل حياتي كده مش عارف اتكلم مع حد غيرك. 
نظرت له ببرود قائلة و هي تشير له بسبابتها... 
-تاني مرة ما تتكلمش معايا كده، و بعدين مش ذنبي إن ربنا كاتب عليك ده 
-لكن ذنبي أنا؟!
-شوف عملك إيه في حياتك علشان تدفع الثمن بالشكل ده، بدل ما بتشيلني حاجة ما ليش ذنب فيها، و على كل حال أنا مش عايزه أتكلم معاك أصلًا... 
قالت كلماتها و غادرت المكان و تركته بجوار جسده و اتجهت إلى حيث يقف والدها قائلة بهدوء... 
-بابا ممكن نروح؟! 
-لا كمان شوية، عندي شوية شغل هخلصهم و أخدك و نروح... 
قالها بإبتسامة بشوشة، فنظرت له بملل... 
-طيب أنا هقعد مع مين؟! 
-دكتور عامر فاضي ممكن تقعدي معه لحد ما أخلص و اجي أخدك، قالها و هو يمسح بيده دموعها العالقة، فنظرت له بهدوء قائلة... 
-بتاع إيه؟! 
-نفسيه و عصبيه... 
نظرت له بصدمة و تحدثت بفم مشدوه قائلة... 
-عايز تقعدني مع دكتور مجانين يا بابا... 
-مجانين إيه يا قلب بابا، ده أنتِ تجنني بلد.. 
ضحكت من كلمات والدها و نظرت له بحب قائلة... 
-ماشي يا سي بابا ما تزعلش من إللي هعمله فيه.. 
-لا مش هزعل، يا رب تولعوا في بعض. 
قالها ثم أخذها و اتجه إلى غرفته بهدوء شديد و طرق الباب فأتاه صوت الطبيب عامر قائلاً... 
-اتفضل.. 
فتح الباب و دخل بصحبة شادن و ما رأه عامر حتى قام بهدوء و مد يده مصافحًا أسامة قائلًا... 
-اذيك يا دكتورنا عامل إيه؟! 
-بخير الحمدلله، معلشِ يا دكتور عامر شادن هتقعد معاك شوية؛ لحد ما أخلص شوية حاجات... قالها أسامة بتمنى مصطنع. 
-إللي تأمر به يا دكتور و بعدين دي تنورنا. 
أجابه بهدوء و نظر إليها قائلًا... 
-منورة يا أنسة... 
نظرت له بخجل قائلة بهدوء.. 
-ده نور حضرتك 
خرج أسامة من الغرفة و اتجه إلى مكتبه و ترك شادن مع دكتور عامر و غادر، كانت شادن تنظر له بهدوء فحاول عامر أن يكسر حاجز الصمت الذي كان بينهما قائلًا... 
-بتدرسي إيه؟! 
نظرت له بصدمة و قلق قائلة... 
-حضرتك بتتكلم معايا؟! 
-في حد تاني هنا غيرك؟! سألها بإبتسامة هادئة، فنظرت له بخجل قائلة... 
-أولى ثانوي عام... 
-ما شاء الله عليكي 
-هو حضرتك دكتور مجانين؟! سألته بعفوية، فابتسم بهدوء قائلًا.. 
-بيقولوا و كمان بيقولوا إني مجنون زي إللي بعالجهم. 
ضحكت شادن من كلماته فنظر لها قائلًا... 
-ما أنتِ بتضحكي آه، أومال مكشرة ليه؟! 
-عادي مخنوقة شوية، و في شوية حاجات مضايقاني... 
قالتها و هي تُخفض رأسها إلى الأرض في هدوء، فنظر لها الطبيب بهدوء قائلًا..
-ممكن تحكي لو مفيش مشكلة، أصل أنا بحب أسمع للناس أوي.. 
نظرت له بهدوء و على ثغرها ابتسامة هادئة... 
-بس أنا ما أتعودتش أحكي لحد... 
-نجرب لو نفع يبقى خير و بركة... 
نظرت له بهدوء قائلة و هي تنظر إلى باب الغرفة... 
-هو أنت ممكن تشوف حد في غيبوبة و يحكيلك قصة حياته و يعيش معاك يوميًا و تتكلم معه. 
نظر له بصدمة فما تقوله ما هو إلا ضرب من ضروب الجنون و الهرتقة، ابتسمت بتهكم قائلة... 
-شوفت، ما ينفعش أحكي؛ لأن الكل هيقول عني مجنونة... 
-لأ مش المقصد، بس ازاي؟! تسأل بقلق، فابتسمت له و نهضت سائرة باتجاه ذاك الزجاج المطل على القرية... 
-زي حكاية المشفى إللي احنا فيه ده... 
اقترب منها بقلق و نظر لها قائلاً... 
-تقصدي إيه؟! 
-تخيل إنك في قرية من قرى الريف و قاعد في مشفى زي ده، لو نزلت القاهرة و قولتلهم إنك شغال في قرية و المشفى إللي فيها كبير و أشبه بمشفى خاص كلهم هيقولوا عنك حاجة من اتنين يا مجنون يا كداب... 
قالتها و هي تنظر في عينيه بثبات ثم بدلت نظرها إلى ساحة القرية الواسعة المملؤة بالأشجار قائلة و هي تربع يديها أسفل صدرها   
-علشان كده في حاجات ما ينفعش تتحكي يا دكتور.. 
نظر لها بصدمة لا يصدق تلك الكلمات التي تخرج منها فقد ظنها طفلة ريفية ساذجة لا تفقه شيئًا مما يجري حولها، لكنها صدمته بشخصيتها الهادئة الرزينة، فابتسم بإعجاب قائلاً... 
-طيب إيه رأيك لو نمشيها بإنك حالة و أنا الطبيب المعالج بتاعها و تحكي إللي بيحصل معاكِ. 
ابتسمت بتهكم قائلة و هي تنظر في عينيه... 
-والدي إللي طلب منك تقعد معايا مش كده؟! 
اضطرب من سؤالها و تلعثم في الكلمات؛ لدرجة أنه لم يستطع الرد فنظرت إليه بهدوء قائلة... 
-طيب إيه رأيك إني هعفيك من الرد بس عندي شرط... 
-شرط إيه؟! سألها بتوتر و قلق 
-إللي هحكيه ما يوصلش لبابا، قولت إيه؟! قالتها و هي تجلس على ذاك المقعد و تضع قدمًا فوق آخرى بثبات. 
اقترب من مقعده المخصص و تنهد كأنما كان يتنفس الصعداء منذ قليل و نظر لها قائلًا و هو يمد يده له مصافحًا... 
-اتفقنا. 
نظرت له بهدوء و أغمضت عينيها قائلة بآسي... 
-من يوم ما توأمي ماتت و أنا بقيت بشوف حاجات غريبة و بحس بوجود أشياء غريبة، لا العلم يقدر يفسرها و لا العقل البشري يقدر يستوعبها... 
كانت كلماتها كصدمة أصابت ذاك الطبيب المعالج الشاب، فأنصت إليها و أطرق أذنيه لها باهتمام فتابعت حديثها بهدوء و هي تفتح عينيها ببطئ شديد قائلة... 
-في الحقيقة كنت فاكرة إني مجنونة و إن إللي بشوفه ده شيء غير مألوف، لكن لما ابتديت اقرأ في كتب علم النفس اكتشفت إن إللي بيحصل معايا ده حاجة عادية، لكن المشكلة ما كانتش في الإحساس إللي كنت بحسه، المشكلة كانت في إللي بعد الإحساس ده...
نظر لها باهتمام و قلق شديدين قائلًا.
-إيه إللي حصل بعد كده...
ابتسمت بهدوء قائلة و هي تضع يُمناها على الطاولة..
-أول ما الساعة تدق عشرة بالليل و أنا خارج غرفتي بتعب و بحس إني في حد بيتحكم في تصرفاتي؛ علشان كده كان لازم أكون في غرفتي قبل عشرة، لكن إللي حصل بعد كده إن الموضوع ده اختفى تمامًا لما دخلت الإعدادي، و بقت حياتي طبيعية جدًا، بحثت في الانترنت عن سبب مقنع للي بيحصل فاكتشفت إنها إشارات عصبية من المخ و أنا مش قادرة اتحكم فيها، مرت الأيام و كنت عايشة بهدوء لحد ما في يوم نزلت أجيب علاج لجدتي من الصيدلية للقلب علشان هي كانت تعبانة أوي و والدتي كانت قاعدة بيها و والدي كان في شغله...
تنهدت و أغمضت عينيها بهدوء فسألها بصوت مضطرب قائلًا..
-إيه إللي حصلك؟!
-نزلت من البيت و كانت الليلة باردة و الدنيا بتمطر، و لما جيت أعدي الطريق ظهرت عربية سودا مرسيدس و قبل تخبطني وقفت و لما بصيت على إللي سايق اكتشفت إنه مش في وعيه أو نايم، ما اهتمتش و دخلت الصيدلية، و جبت العلاج و لما طلعت فوجئت بالعربية واقفة زي ما هي، ما اهتمتش و مشيت و أنا في الطريق كان الشارع فاضي و شبه مظلم فجاءة لقيت شاب بيوقفني بصتله لقيته نفسه إللي كان في العربية...
توقفت عن السرد، فنظر لها الطبيب باهتمام قائلًا...
-و بعدين إيه إللي حصل؟!
ابتسمت بهدوء و قد لمع بريق غريب في عينيها قائلة له. 
-سألني عن المدرسة الثانوي، خفت منه و مشيت بدون ما أرد عليه، و دخلت البيت و أديت لوالدتي العلاج و أنا قلبي في رجلي و بعديها سألت عن والدي و كان رد والدتي ما تعرفش و طلعت لغرفتي و فوجئت بالشخص ده معايا في الغرفة سألته أنتَ هنا ازاي و دخلت منين؟، قالي دخلت معاكي، و بعدين اكتشفت إنه ابن رجل الأعمال حسين المغاربي و إنه عمل حادثة حاول يمسكني علشان يأكدلي إنه عايش لكنه ما قدرش و الصدمة لما لقيته بيعدي من جسمي و بعد كده اتكلم معايا و حكالي عن نفسه، و طلب مني أجي المشفى لعل و عسى يقدر يدخل جسمه و بالفعل جيت لكنه ما قدرش، و ما أعرفش السبب...
أنهت كلماتها و نظرت إلى الطبيب قائلة...
-مجنونة مش كده؟!
ابتسم الطبيب قائلًا بهدوء..
-لا ده مش جنون و ممكن يحصل عادي جدًا و مش أنتِ أول حالة يحصل معاها كده، بس أكيد في رابط بينكم أنتوا الاتنين علشان كده هو ظهرلك.
-رابط ازاي؟! ده لا ممكن يحصل، أنا عمري ما خرجت من القرية و لا سافرت و لا قابلته قبل كده، قالتها باندفاع فابتسم الطبيب و وقف بكل هدوء و اتجه إلى ذاك الزجاج المطل على القرية قائلًا...
-مش شرط تكونوا اتقابلتو قبل كده، ممكن يكون أخر حد شافه أنتِ أو أنتِ شوفته قبل الحادثة....
-ده لا ممكن يحصل، الحادثة كانت خارج القرية، قالتها و هي غاضبة، فنظر لها الطبيب و على وجهه ابتسامة هادئة قائلًا...
-في حاجة اسمها العلم اللادني في علم النفس، و ده بيكون مرتبط بحلقات الزمن و المكان...
نظرت له بقلق فابتسم لها بهدوء قائلًا...
-الموضوع مش مخيف، أنا كنت زيك بس من فطرة طويلة أوي، و بعد شهرين من الحادثة الشخص ده اختفى من حياتي تمامًا...
-اختفى ازاي؟!سألته بقلق..
-أكيد في حاجة المفروض ينفذها علشان يقدر يرجع لجسمه...
قالها و هي ينظر لها بهدوء، فنظرت له و أجابته بعنف..
-الكلام ده لا يمكن يكون منطقي..
ابتسم عامر و اتجه إلى مقعده و جلس بهدوء قائلًا و هو يشير لها بالجلوس...
-أيوه مش منطقي؛ لأني بتريق على كلامك...
غضبت شادن من كلمات عامر و همت بالخروج و قبل أن تغادر نظرت له بهدوء قائلة...
-بكره تقابل حالة بنفس الطريقة يا دكتور و أفكرك.
ضحك عامر بسخرية و نظر لها باستهزاء قائلًا..
-ابقى خففي من الروايات إللي بتقرأيها، الكلام ده مش بيحصل غير في الروايات، و ده مرض نفسي، و لو حابه تتعالجي منه أنا تحت أمرك في أي وقت.
نظرت له بسخرية قائلة و هي تفتح الباب...
-لأ و لو كنت مريضة نفسية زي ما حضرتك بتقول، فأنا مش هفكر أتعالج تحت ايد متخلف زيك..
أنهت جملتها و خرجت و هي تغلق الباب خلفها بعنف، و ما إن خرجت حتى سقط القلم الموضوع على الطاولة و تحطم كوب الماء بعدما سقط و غادر ذاك الطيف المكان، و هما قلق ذاك الطبيب، ثم شغل نفسه عن الأمر قائلًا لنفسه بأن ما حدث ريما كان بسبب ظروف طبيعية؛ لكن أي ظروف تلك التي تحرك كوبًا موضوعًا في منتصف الطاولة ليقع على الأرص و يتحطم.
غادرت شادن المكان و اتجهت إلى تلك الغرفة الخاصة بباسل و ما إن وصلت حتى اقتربت من الزجاج و نظرت إليه بحزن قائلة بصوت منخفض...
-أنتَ سبب كل مشاكلي...
اقترب منها الطيف قائلًا بحزن...
-ما حدش فينا عايز يبقى مع التاني و لا طايقه.
-أنت السبب في كل مشاكلي دي..
- مفيش في ايدي حاجة أعملها، حاولت ادخل جسمي لكن ما قدرتش.
قالها بحزن فنظرت له بهدوء..
-عقلك في غيبوبة، علشان كده أنت هتكون معايا لحد ما تقدر تستعيد جسمك.
-شكل الموضوع هيطول...
-يمكن..
قالتها و هي تنظر إلى جسده الراقد أمامها، و فجاءة اقترب منها والدها قائلًا..
-أنتِ بتعملي إيه هنا؟!
-أبدًا مليت من الدكتور الجاهل ده فخرجت من عنده، قالتها بهدوء و هي تنظر في عينيه، فابتسم لها قائلًا...
-مش هنروح و لا إيه؟!
-لأ أكيد هنروح، بس ممكن أطلب من حضرتك طلب يا بابا..
-أنتِ تأمري يا قلب بابا، قالها و هو يقبل رأسها، فابتسمت له بهدوء قائلة...
-هو أنا ينفع أجي أزور الحالة دي لو حضرتك سافرت؟! سألته بقلق، فوضع يده على كتفها قائلًا...
-في أي وقت يا شادن تقدري تيجي تزوريه.
-حبيبي يا بابا، قالتها و هي تحتضنه فربت على ظهرها و فجاءة رن هاتفه فأخرجه فإذا به الطبيب عامر، أخرج مفاتيح السيارة من جيب سترته و أعطاه إلى شادن قائلًا بإبتسامة رفيقة..
-جهزي العربية يا قلبي؛ لغاية ما امضي على الانصراف..
-تمام يا بابا..
أخذت المفاتيح و اتجهت إلى السيارة، و هنا أجاب أسامة على عامر..
-ألو..
-أيوه يا عامر خير إن شاء الله، اتكلمت معاك؟!سأله بقلق و توتر..
-آيوه بس هي عارفه إنك عايز تعرف هي مالها..
-قالتلك إيه؟! سأله و هو يتحرك ذهابًا و إيابًا..
-شادن مريضة نفسيًا يا دكتور..
-عرفت منين؟! سأله بقلق..
أخذ عامر يقص عليه ما أخبرته به شادن فنظر أسامة إلى السيارة التي تقف أمام المشفي قائلًا..
-شكرًا جدًا لتعبك معايا، بس شادن مش مريضة نفسيًا، و إللي شافته ده أنا كنت شاكك فيه، و علاج بنتي أنا عارفه.
أنهى المكالمة و خرج إلى حيث تقف السيارة بهدوء و على وجهه ابتسامة حتى لا يلفت نظر شادن إلى شيء.
آه عندما يكون الطبيب جاهلًا، و يصبح العاقل ضحية لساذجة الأطباء، اللعنة على حماقة أولئك الأطباء، لكن في النهاية من أنا لألعن أولئك البشر.
ودقت العاشرة
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى
ابنة الشريف


الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم