ودقت العاشرة - الفصل الثالث

 و دقت العاشرة لـِ ابنة الشريف الكاتبة سهيلة آل حجازى 


(3) أتعرف من أنتَ؟!

من أنتَ؟! بل ما أنت؟! لا أجد جوابًا على أسئلتي و أنتَ لا تجد الجواب الذي أريد، كأنما أنا داخل حلقة زمنية معقدة لا أعرف بدايتها من نهايتها، لا أعرف متى سيخرج منها، و كيف سأبقى بعده بها؟!، اقتحم حياتي فجاءة دون سابق إنذار، و لا أريده أن يقتحمها من جديد.

في تلك الليلة الهادئة جافي النوم عيني أسامة و أحس بالقلق على طفلته فخرج من الغرفة و اتجه إلى غرفة شادن و ما إن فتح الباب و دخل نظر إليها و اقترب منها فوجد فراشها على طرف السرير فأمسكه و غطاها و قبل رأسها بحنان و نظر إليها بهدوء كأنما يريد أن يسأل عما يحدث معها، لكنه لا يعرف متى يسأل و كيف يسأل، كان ذاك الطيف جالسًا يراقبه في صمت و يبتسم، رفع أسامة ناظريه إلى سقف الغرفة كأنما يشخص بناظريه إلى السماء قائلًا...

-يا رب قد استودعتها عندك فاحفظها بعينيك التي لا تنام.

أنهى كلماته و اتجه إلى باب الغرفة و استدار و نظر إليها بحنان و أغلق الباب بهدوء شديد و عاد إلى غرفته، و ما إن دخل حتى وجد زوجته مستيقظة فنظرت له بقلق قائلة..

-خير يا أسامة كنت فين؟!

-قلقت على شادن فروحت اطمن عليها..

أجابها و هو يجلس على طرف السرير، فنظرت له بقلق قائلة..

-مش عارفة يا أسامة شادن مالها متغيرة كده ليه؟!

-شادن في حاجة بتحصل معاها و مش عايزه تحكي..

قالها بحزن ثم نظر إلى زوجته قائلًا...

-ربنا يحفظها..

-يا رب..

خلدا إلى النوم، و مر الليل عليهم مرور الكرام و اقترب الليل من الجلاء لتنير الشمس السماء، و يعلو صوت المؤذن من مسجد الرحبة الواسع ليملئ كل شوارع القرية و ينهض الناس من سباتهم، قام أسامة من نومه ليفاجئ بشادن في الحمام تتوضئ فتعجب من الأمر، خرجت شادن من الحمام و عندما قابلت والدها ابتسمت له قائلة...

-صباح الخير يا بابا..

-صباح النور يا قلب بابا، قالها بسعادة.

اقتربت منه و قبلت يده ثم دخلت إلى غرفتها بهدوء و ارتدت إسدال الصلاة و صلت خلف ذاك الطيف بكل خشوع، بينما أنهى أسامة وضوئه و ارتدي ملابسه و هبط إلى أسفل و خرج من المنزل متجهًا إلى المسجد و في الطريق بدأ يقابل أهل القرية و يلقون عليه التحية..

-اذيك يا دكتور أسامة؟!

-الله يسلمك يا أم شجن..، رد عليها و هو يغض بصره عنها.

-أم شادن عاملة إيه و الحاجة عاملة إيه؟!

-بخير بيسلموا عليكي..

أنهى جملته و غادر المكان و اتجه إلى المسجد و وقف خلف الإمام و صلى الفجر و جلس يسبح الله و يشكره على نعمه و فضله، و فجاءة اقترب منه الشيخ أحمد قائلًا..

-حرما يا دكتور أسامة..

-جمعًا إن شاء الله يا شيخ أحمد..

أجابه بإبتسامة، فنظر إليه قائلًا...

-خلي بالك من الطير إللي في بيتك يا دكتور..

أنهى كلماته و وقف و غادر المكان بكل هدوء و تركه في حيرة من كلماته مثلما فعل مع شادن.

قام أسامة و خرج من المسجد و أخذ يسير باتجاه منزله و هو يتخبط كأنما أصابه مس من الجن، و فجاءة أوقفه أحد جيرانه قائلًا...

-اذيك يا دكتور، عامل إيه؟!

-الله يسلمك، بخير الحمدلله، أنت أخبارك يا أستاذ عثمان؟!قالها و على وجهه ابتسامة..

-بخير طول ما حضرتك بخير..

-دايمًا يا أستاذنا..

-كنت عايز اسألك سؤال..

-اتفضل، أنت تأمر...

نظر له بهدوء قائلًا...

-هي شادن في سنة كام؟!

ابتسم أسامة بهدوء و نظر له بثبات قائلًا...

-١٦ يا أستاذنا...

-دي لسه صغيرة، كنت بحسبها كبيرة شويتين فكنت حابب أناسبك..

أجابه بحزن ظاهر، فابتسم له بهدوء قائلًا..

-لينا الشرف يا أستاذنا بس هي لسه صغيرة و دراستها أهم من الكلام ده..

-ربنا يوفقها و تشوفها في أعلى المراتب..

-اللهم أمين أجمعين إن شاء الله.

أنهى كلامه مع عثمان و عاد إلى منزله و ما إن دخل حتى قابل شادن في وجهه فابتسم قائلًا..

-الغزال رايح فين؟!

-رايحه المدرسة يا بابا..

-خلي بالك من طريقك يا حبيبة قلب بابا...

قالها و هو يقبل رأسها و غادرت المدرسة و خرجت شادية من المطبخ قائلة...

-خير تخلي بالها من نفسها ليه؟

-الوردة فتحت و العرسان بدأوا يخبطوا على بابك... قال كلماته و على وجهه ابتسامة، فضحكت شادية بهدوء مخلوط بفرحة و شغف.

في الطريق إلى المدرسة كان الناس يتحركون كبارًا و صغارًا، و فجاءة أتت فتاة و دفعت شادن و هي تسير، كادت أن تسقط لولا أنها أخذت تترنح في الطريق و تمالكت نفسها بهدوء و نظرت إلى تلك الفتاة بهدوء و هي تكظم غضبها قائلة...

-لو اتكررت تاني هتزعلي..

-إيه يا بنت المصروايه فاكراني هخاف منك و لا إيه؟!

قالت كلماتها هازئة من شادن فابتسمت شادن بسخرية منها قائلة...

-طول عمرك يا شجن هتفضلي كده و مش هتتغيري..

أنهت كلماتها و اتجهت إلى المدرسة و ما إن دخلت حتى بدأ الطابور، مرت التمارين و بدأ مدير المدرسة ينادي أسماء الطلبة الأوائل من الصف الأول الثانوي، و صار ينادي إلى أن وصل إلى ذاك الاسم الغريب في نطقه قائلًا...

-شادن أسامة حسين حجازى... الحاصلة على المركز الأول..

خرجت من بين صفوف الطابور ببذلتها الكلاسيكية البنية اللون و اتجهت إلى حيث يقف المدير بهدوء و رصانة و استلمت منه شهادة التقدير و عادت إلى مكانها و صعدت إلى صفها لتداوم على حصصها بكل هدوء و دخلت إلى الفصل و جلست في مقعدها في أول صف، لم تمض بضع ثوينات حتى دخلت معلمة اللغة العربية إلى الفصل و

بدأت تأخذ الغياب و ما إن وصلت إلى آخر اسم حتى ابتسمت و نظرت إلى شادن بهدوء قائلة...

-شادن مش كده؟!

ابتسمت شادن بهدوء و أومئت رأسها بإيجاب، فاقتربت منها المعلمة قائلة بصوت رقيق جذاب...

-عارفة معنى اسمك؟!

-صغيرة الغزال، قالتها و هي تقف و على وجهها ابتسامة مشرقة..

-إللي سماكي كان معه حق في اختيار الاسم يا شادن، اقعدي.

قالت كلماتها بهدوء شديد، و جلست شادن على إثرها و بدأت المعلمة تشرح جزءًا من مكرر منهج النحو، و فجاءة و توقفت عن الكلام قائلة بهدوء..

-حد فيكم يعرف مين هو مؤسس علم النحو؟!..

رفعت إحدى الطالبات يدها فابتسمت المعلمة بهدوء شديد قائلة و هي تشير لها بيمناها...

-اتفضلي يا جميل، اسمك إيه؟!

-اسمي شجن..

-طيب اتفضلي قولي جوابك..

قالتها المعلمة بوجه بشوش، فنظرت شجن إلى المعلمة بإبتسامة هادئة و أجابت بثقة عمياء...

-ابن سيبويه...

نظرت لها المعلمة و على وجهها ابتسامة هادئة قائلة...

-اتفضلي اقعدي يا شجن..

جلست شجن بثقة ظنًا منها أنا جوابها كتن دقيقًا، و فجاءة تحدثت المعلمة بهدوء قائلة..

-حد عنده اعتراض على كلام زميلتكم شجن؟!

و هنا رفعت شادن يُمناها بهدوء فابتسمت لها المعلمة و أومئت لها بالنهوض و التحدث، فقامت بثبات و على وجهها ابتسامتها البشوشة قائلة بثبات...

-مؤسس علم النحو هو العالم الكبير أبو الأسود، و في روايات كتير اتكلمت عن سبب وضعه لعلم النحو و كان منها إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب طلب منه أن يضع علمًا شاملًا للقواعد النحوية و أحكامها.

ابتسمت المعلمة و نظرت إلى شادن بهدوء قائلة...

-دي هي الإجابة الصحيحة يا بنات، فعليًا ابن سيبويه عالم من علماء النحو لكن ليس المؤسس لعلم النحو..

أنهت المعلمة كلماتها و أشارت إلى شادن بالجلوس فجلست بهدوء و أخذت تستمع و تدون ما تقوله المعلمة بكل هدوء و اهتمام، انتهت الحصة و ذاك الطيف ينظر لها بإعجاب رغم ما به من آلالام.

فُتح باب الفصل و دخل ذاك المعلم الذي سخر من اسمها و بدأ يأخذ الغياب و ما إن انتهى حتى كتب قطعة باللغة الفرنسية على السبورة

و نظر إليها و على وجهه ابتسامة ماكرة لم يفهم أحدٌ سببها قائلًا بخبث..

-سمعت إن والدتك كانت بتدرس في فرنسا و إنك بتتكلمي فرنساوي كويس، يا ريت تثبتي صحة الكلام ده...

نظرت له بتوتر و قلق فهي لا تجيد سوي الانجليزية و العربية، لاحظ باسل الأمر فاقترب من وجهها و فجاءة اختل توازنه و لامست جبهته جبهتها و قبلها ليجد نفسه داخل جسدها...

-إيه الفرنساوي بتاعك زيروو و لا إيه؟!

نظر له باسل بسخرية قائلًا..

-Pas de professeur, mais j’ai lu ces mots avant de me lever.

“لا، أنا بقرأ الكلمات دي قبل ما أقف"

صُدم ذاك المعلم من طلاقة حديثها بالفرنسية و تابع باسل قراءة القطعة و انتهى الدوام و عندما هم بالمغادرة اصطدم بباب الفصل و خرج من جسدها، فنظرت له شادن بصدمة و عينين متسعتين قائلة..

-هو إيه إللي حصل؟!

نظر لها بصدمة مماثلة قائلًا هو الآخر...

-مش عارف كل إللي فاكره إني وقعت و خبت فيكي و ما أعرفش بعدها إيه إللي حصل...

حاولت شادن تذكر ما حدث إلا أنها لم تتذكر شيئًا و أحست بدوار في رأسها و أخذت تسير بهدوء باتجاه الخارج رغم ترنح جسدها، لتفاجئ بوالدها ينتظرها أمام بوابة المدرسة و ما إن وصلت إليه حتى اسودت الدنيا أمام عينيها و سقطت في أحضانه ففزع والدها من المنظر و حملها و أدخلها السيارة و فتح حقيبتها ليفاجئ بدوائها و طعامها كاملين ففتح تلك العلبة و أخرج منها الإبرة و أعطاها لها بهدوء و ما إن استيقظت حتى نظر لها بعتاب قائلًا...

-ما أخدتيش العلاج ليه و ما أكلتيش السندوتشات ليه؟!

-نسيت معلشي يا بابا...

صمتت طوال الطريق و ما إن وصلت إلى منزل و دخلت حتى طلب والدها من زوجته إعداد الطعام و وضعه ليتناولوه..

صعدت إلى أعلى و بدلت ثيابها في الحمام و ما إن دخلت إلى الغرفة حتى تحدث ذاك الطيف قائلًا....

-أنا أسف على إللي حصل يا أنسة...

نظرت له شادن قائلة بهدوء...

-هو إيه إللي حصل؟!

-أصل بصراحة لما مدرس الفرينش اتكلم قومت علشان اقرألك القطعة و وأنا بتحرك وقعت و بوستك و دخلت جسمك بدون قصد و الله...

ما إن كلماته حتى اقتربت منه و صرخت في وجهه قائلة بغضب.

-أنت منحرف..

أنهت جملتها و غادرت الغرفة و هبطت إلى أسفل و تناولت الطعام ثم استأذنت من والديها و صعدت إلى غرفتها لتحصل دروس اليوم و ما إن دخلت حتى وجدته جالسًا واضعًا يديه على رأسه كأنما هو يعاتب نفسه علما فعل، اقتربت من مكتبها و جلست عليه لتذاكر دروسها و ما إن انتهت حتى أذن المغرب فقامت و توضئت و صلت، و جلست أمام التلفاز لتصدم بذاك الخبر...

-عاجل وفاة وريث شركة المغاربي باسل حسين المغاربي في قرية الرحبة...

ما إن سمع كلمات تلك المذيعة حتى صُدم، أغلقت شادن التلفاز و هي تقترب منه قائلة...

-أكيد مش أنتَ، أكيد في حاجة غلط...

نظر لها بهدوء و هو يحاول ألا يظهر غضبه قائلًا...

-لو أنا مت ازاي هكون موجود معاكي دلوقتي...

-مش عارفه ثواني أنا هسأل بابا و أعرفك إيه إللي بيحصل...

قالت كلماتها و اتجهت إلى أسفل بقلق قائلة...

-بابا هو المريض إللي تحت إيدك اتوفى؟!

نظر لها أسامة بصدمة قائلًا...

-لا يا روحي حالته بتتحسن، بس إللي في الأخبار ده لعبة من حسين المغاربي...

-لعبة إيه يا بابا و ليه؟!

-و الله ما أعرف يا شادن...

نظرت له شادن و لم تتحدث و ابتسمت بهدوء ثم غادرت إلى غرفتها و ما إن دخلت حتى نظر بهدوء لها قائلًا...

-قالك إيه؟!

-بابا قال إن حالتك مستقرة، و إن والدك بيعمل كده علشان يلعب لعبة..

قالت كلماتها و جلست على الأريكة و نظرت له قائلة...

-أنت مين؟!

نظر لها بإبتسامة هادئة...

-يهمك تعرفي حكايتي؟!

-مش قصدي إني أدخل في خصوصياتك، بس....

توقفت عن الحديث كعادتها، فنظر إليها قائلاً...

-بس إيه؟!

-مش عارفه، مش فاهمة، أنا زهقت...

-مني؟!

-لأ، قالتها باندفاع و هي تنظر في عينيه فابتسم بهدوء على عفويتها قائلًا و هو يشير إلى عينيها...

-المميز إللي فيكي إن عيونك بتقول أنتِ عايزه إيه...

نظرت له بعدم فهم و لم تتحدث، فابتسم بهدوء قائلًا...

-مش بقولك عيونك بتقول أنتِ عايزه إيه...

-أنا حاسه إني متلغبطه، مش عارفه إيه إللي بيحصل معايا..

قالتها بصدق و شرود، فابتسم بهدوء شديد و نظر في عينيها قائلًا...

-أنا اسمي باسل حسين المغاربي زي ما أنتِ سمعتي بالظبط من الإعلام في التي في، في الحقيقة أنا ابن حسين المغاربي بالتبني، و من يوم ما عرفت إني مش ابنه الحقيقي و أنا دخلت تربية قسم فلسفة بدل ما ادخل هندسة أو إدارة أعمال...

كانت كلماته مثل زخ المطر في ليلة شتاءٍ باردة، و صاحب صوته الحزين صوت قطرات الماء التي هبطت من السماء على الأرض كأنما هي تواسيه بالمياه، نظر في عينيها و تابع حديثه...

-خلصت جامعتي و اتخرجت و كنت الأول على دفعتي و قولت هتعين معيد في الكلية لكن للأسف ما حصلش و اتعينت مدرس في مدرسة في إمبابة، و بعدت عن شغل حسين المغاربي و اشتغلت على نفسي و بقيت ادخر القبض بتاعي، لحد ما في يوم قابلت إلين و أعجبت بيها و طلبت من بابا حسين يساعدني إني اتقدملها و بالفعل قد كان و خطبتها و بعد ست شهور من الخطوبة جالي جواب نقل لمدرسة الرحبة الثانوية و وافقت؛ لأنها كانت بدأت تتكلم معايا عن الشغل مع بابا حسين و في الحقيقة كنت أنا رافض المبدأ شكلًا و موضوعًا..

نظر إلى تلك الشادن التي كانت تبكي فور سماع كلماته في صمت شديد رغم أن ما قصه لا يُبكي أحد و ابتسم بهدوء شديد...

لعل رقيق الروح إن جلس يبكي على ما فات رغم تعدد النعم.

و دقت العاشرة لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى ابنة الشريف



الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم