ودقت العاشرة لـِ الكاتبة سهيلة
بنة الشريف
(6) بسيمة باللوز
دومًا ما تقص لنا الجدة حكايات قديمة عفها الزمن و لا تواكب العصر الذي نعيش فيه، لكن في حقيقة الأمر تلك الحكايات هي محور الحياة في الماضي و الحاضر و المستقبل، مهما اختلف شكل الحياة و تعددت الثياب و تقدمت الأمم، سيظل الماضي جزءًا لا يتجزأ من حاضر هذه الأمم.
كانت شادن جالسة بهدوء في السيارة و ما إن فتح أسامة الباب الآخر و جلس على المقعد حتى نظرت إليه بهدوء قائلة..
-مش عيب يا بابا تزق عليا حتة عيل ما بيفهمش؟!
تملكت أسامة الصدمة و لم يجد ما يدفع به الحرج عن نفسه و تنحنح قائلًا و هو يشغل السيارة و يدير المحرك...
-أنا يا شادن يا حبيبتي؟!
نظرت إلى الطريق بثبات و تحدثت بمكر قائلًا...
-لأ أنا يا بابا...
ضحك الأب من كلماتها و نظر إليها بهدوء قائلًا...
-و لما أنتِ عارفه إني إللي ورا الموضوع اتكلمتِ معاه ليه؟!
-اتكلمت من باب الفضول فقط لا غير،أنهت جملتها و فتحت النافذة التي تجاورها.
-فضول إيه يا شادن؟!
-الدكتور كان فاكر إني طفله ريفية ساذجة يا بابا.
أجابته و هي تنظر إلى ذاك الطريق المرصوف، ثم بدلت نظرها إلى والدها و تحدثت بهدوء..
-بس أعتقد إن بنت الريف هي إللي ربحت في الآخر.
-شادن إيه إللي بتشوفيه و حكيتي لعامر عليه؟! سألها والدها بهدوء و هو ينظر إلى الطريق بثبات.
-مش يمكن إللي بشوفه ده وهم؟! سألته بسخرية
-عمره ما يبقى وهم يا شادن، قالها الأب بثبات و هو يمد يده ليرتدي نظارة الطريق الليلية.
-دكتورك قال إني مريضة نفسية، هنتظر من حضرتك إيه تقول عني مجنونة.
ألقت كلماتها تلك التي هبطت على أذنه مثل صاعقة مدوية، فنظر لها الأب بصدمة من كلماتها و لاحظ بريق الدموع في عينيها...
-عايز تقول إيه يا بابا؟! سألته و هي تنظر إلى الطريق بثبات، فأجابها و هو يضبط المرأة قائلًا...
-هو معانا صح؟!
-آيوه، موجود...
-و أنا مصدقك، بس مش عايز حد غيرنا يعرف بالموضوع ده يا شادن و بالنسبة لدكتور عامر أنا هعرف أتعامل معاه كويس.
نظرت له بصدمة عقدت لسانها عن الكلام، فابتسم الأب بهدوء كأنما بتلك الإبتسامة يؤكد لها كلماتها، فأخذت دموعها تنهمر على
وجنتيها، شعر الأب بها فركن السيارة على جانب الطريق و احتضنها قائلًا...
-عمري ما شوفتك ضعيفة كده يا شادن...
-مخنوقة يا بابا، ليه ده كله بيحصلي، أنا ما صدقت خلصت من إحساسي بإن فيه ناس حواليا، ليه حياتي تتقلب مره واحدة، و إللي فوق يبقى تحت و العكس..
أنهت جملتها و انهارت أمام والدها، كأنما تلك الحصون التي كونتها طوال تلك الأعوام، أصابها سيل ماء حاد فدمرها، أخذها والدها في أحضانه قائلًا...
-استغفري ربنا، و احمديه يا شادن، إللي بيحصل معاكِ ده ما هو إلا تجربة صغيرة و اختبار من ربنا علشان يشوفك هتصبري و لا لأ، و بعدين أنتِ إنسانة مؤمنة مش كده و لا إيه؟!
-استغفر الله العظيم وأتوب إليه، بس أنا مخنوقة، حاسه إني داخله مكان مش بتاعي، و فوق ده و ده مش قادرة أساعده بحاجة.
كانت كلماتها مثل زخ المطر، و فجاءة عصفت الرياح بأوراق الشجر، و هبط المطر من السماء كأنما رب الخير يواسيها و بخيرها بأن الخير قادم إليها مهما كان ما تمر به، نظرت إلى زجاج السيارة الأمامي و ما إن رأت قطرات المطر حتى ابتعدت عن أحضان والدها، و فتحت باب السيارة و وقفت أسفل تلك المياه المنهمرة من أعالي السماء و شخصت ببصرها إلى السماء قائلة بصوت حزين و قلب مفطور...
-ربي إني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين.
آه ما أجمل ذكر اسمك يا رب وقت الشدة، و ما أجمل حمدك وقت النعمة، يا ملجأ العصاة عند التوبة، و المستضعفين وقت النكبة، و يا ناصر المظلوم على الظالم، و مفرج كرب المهموم الهائم، ما أجمل ذكرك في قلوبنا و عقولنا، ما أعظم أن تقر الجوارح بجودك يا رب قبل الألسن.
أخذت تستدير وسط الطريق و عينيها شاخصة إلى السماء و قلبها يلهج باسمه قبل لسانها، حالة من الخشوع له وحده، حالة من الخضوع التي لم تمر عليها من قبل، كان ذاك الأب الصالح ينظر إليها بعينين تمتلئ بالدموع، أمام ذاك الطيف فكان يلاحقها كأنما هو انعكاس لظلها على الأرض في نهار صيف مشمس، نظرت إلى السماء قائلة بصوت مرتفع هُزت معه أوراق الشجر...
-لك الحمد يا الله...
أنهت جملتها فأضاءت السماء بقبس من نور المولى، فانحنت ساجدة لله في خشوعٌ و سط تلك المياه التي أغرقت الشوارع، لم تعبء لثيابها التي تشربت الماء، هبط والدها من السيارة و اقترب منها و ربت على كتفيها بحنان قائلًا...
-يلا علشان الوقت اتأخر و علشان نجيب الحلويات لجدتك بدل ما هتطردنا من البيت.
قامت و ضحكت من كلمات والدها بينما قام والدها و نظر إليها بهدوء قائلًا...
-يلا جايب طفلة أنا تلعب معايا.
قامت و نظرت له بتحدٍ قائلة..
-إذا كان عاجبك بقى يا سي بابا.
-طيب يا أم لسانين..
أخذها و سارا باتجاه السيارة و ركبا و اتجه إلى الحلوانى ليشتريا بعض الحلويات ويعودا إلى المنزل، و ما إن وصلا حتى كان صاحب المحل يهم بإغلاقه بسبب المطر و الهواء العاصف، هبط أسامة من السيارة و اتجه إلى الرجل قائلًا...
-استنى يا حاج سعيد.
-قفلت خلاص تعالي بكره، قالها دون أن يستدير لأسامة و عندما هَم بإغلاق الباب وجد أسامة أمامه فنظر له قائلًا...
-ده أنا افتحلك عشرين محل اتفضل يا دكتور..
-الله يعزك، كنت عايز منك تشكيلة حلويات على كيفك و ٢ كيلو بسيمة باللوز لوحدهم..
قالها أسامة بإبتسامة، فنظر له الحاج سعيد قائلًا...
-من عيوني يا دكتور..
دخل إلى المحل و لف له ما طلب و خرج و مد يده العلبة قائلًا...
-اتفضل يا دكتور بالهنا و الشفا..
-على قلبك يا حاج سعيد، حسابك كام؟!سأله و هو يخرج المحفظة من جيب بنطاله، فأمسك الحاج سعيد يده قائلًا...
-ده خيرك و خير والدك يا دكتور، و عيب إللي أنتَ بتعمله
-لأ معلشِ يا حاج، و الله ما تحصل، ده تعبك...
-يا ابني، دي هدية مني ليك و للحاجة والدتك، الله يحفظها، قالها الحاج سعيد و هو يضع يمناه على كتف أسامة، فابتسم أسامة بهدوء قائلًا...
-طيب اقفل و تعالى معايا علشان عايزك...
-حاضر يا ابني.
أغلق الحاج سعيد المحل و اتجه مع أسامة إلى السيارة و ما إن وصلا حتى فتحت شادن الباب الخلفي للسيارة..
-اتفضل معانا..
-لأ يا دكتور ده عماد ابني زمانه جاي...
و ما إن أنهى كلمته حتى أتى عماد بالشمسية، فنظر له أسامة قائلًا...
-طيب و الله يا حاج سعيد لو ما ركبت أنتَ و أسامة معانا لتكون بزعل.
-ليه كده يا أسامة؟! قالها الحاج سعيد بخرج، فنظر له أسامة قائلًا بإبتسامة...
-اركب يا رجل يا طيب.
و بالفعل ركب الحاج سعيد و عماد في الخلف و اتجه أسامة و ركب بجوار شادن و أشعل مصابيح السيارة الداخلية بهدوء شديد.
نظرت شادن إلى انعكاس صورة الحاج سعيد في المرآة قائلة بأدب..
-اذيك يا جدو، حضرتك عامل إيه؟!
-الله يسلمك يا غالية، بخير يا بنتي الحمدلله، أجابها بهدوء، فنظر أسامة إلى عماد قائلًا...
-عامل إيه يا عماد؟!
-بخير و الله يا دكتور، قالها بإبتسامة هادئة و هو ينظر له..
-أخبار دراستك إيه؟!
-دراسة إيه بقى، عماد خلص و بقى معيد قد الدنيا في كلية علوم قسم رياضيات، قالها الحاج سعيد و هو يضع يده على ظهر ابنه بفخر.
و هنا رفعت شادن رأسها و نظرت إلى انعكاس صورة عماد في المرآة لتراه عن كثب، و لاحظ أسامة الأمر لكنه لم يبدِ اهتمامًا إلا عندما لاحظ تلك النظرات الساخرة في عيني شادن...
-شادن في حاجة عايزه تقوليها؟!
-هااا، أبدًا يا بابا، بس افتكرت حكاية سمعتها في المدرسة عن معيد في كلية و كنت بفكر فيها، قالتها و هي تنظر إلى والدها بهدوء و ترمق ذاك الجالس في المقعد الخلفي بطرف عينيها..
-حكاية إيه يا قلب بابا؟!
-سمعت إني في معيد في كلية ماشي مع نص بنات المدرسة عندنا
ما إن أنهت كلماتها حتى اتسعت عينا عماد من الموقف الذي بات فيه.
-يخربيته نص بنات المدرسة، قالها أسامة بصدمة...
-بس مش ده السؤال، السؤال هو ده ينفع؟! ما تجاوبني يا دكتور عماد، قالتها و هي تنظر إليه باحتقار...
-لأ ما ينفعش يا أنسة، قالها و هو يخفض وجهه خجلًا..
-يا ريت تفكره إن بكره هيتعمل في حد من أهل بيته كده، أصل واحد صاحبك و أنتَ عارفه كويس أوي...
قالتها و هي تستدير و تجلس بثبات كأنها لم تفعل شيئًا، نظر لها والدها بهدوء..
-مين ده يا شادن؟!
-واحد بقى الله يسهله يا بابا و يهديه...
-بس ده قليل تربية يا بنتي، ازاي يعمل كده؟! قالها الحاج سعيد بعفوية، فنظرت إلى انعكاس صورة عماد في المرآة قائلة...
-لأ هي مش قلة التربية؛ لأن أكيد أهله ناس محترمة، هو كل ما في الموضوع إنه شايف نفسه حبتين.
نظر لها عماد بهدوء فقد توقع منها أن تنعت تربيته بأبشع الصفات، إلا أنها فاجأته بكلماتها تلك.
-أكيد هيعقل قريب يا أنسة، قالها عماد و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، فنظرت إلى انعكاس صورته في المرآة قائلة..
-أتمنى، على الأقل يكون لائق بمكانته الاجتماعية، و الأمانة إللي حاملها.
مرت عدة دقائق و وصلا إلى منزل الحاج سعيد و توقفت السيارة، و هنا نظر الحاج سعيد إلى شادن قائلًا...
-أتمنى أقابلك مرة تانية يا بنتي.
-أكيد هنتقابل لو لينا نصيب، قالتها و هي تنظر إليه و على وجهها ابتسامة هادئة.
هبطا الحاج سعيد و عماد من السيارة، و ودعهم أسامة بعدما أخذ الحاج سعيد يلح عليه بالدخول إلا أنه رفض، و ما إن ابتعدت السيارة حتى نظر الحاج سعيد إلى عماد الذي لم تتزحزح عينه عن الطريق قائلًا...
-عجبتك؟!
-هااا..
-هاا إيه، ده أنتَ شكلك واقع، قالها و هو يضحك ثم ضربه على كتفه و فتح باب المنزل...
-مش مصدق إن دي في أولى ثانوي، قالها بعماد بفم مشدوه...
-طالعه لجدتها، جدتها كانت كده، و كانت كلمتها بتمشي على الكل، الكبير قبل الصغير...
قالها الحاج سعيد و على ثغره ابتسامة هادئة و دخلا إلى المنزل..
-بصراحة كلام الواد عمر عنها ما كنتش مصدقه، لكن اظاهر إنه كلامه صح..
-دي تربية الحاجة أم أسامة يا عماد، و إللي زي دي تتشال جوا العين.
-كلامك صحيح يا بابا.
في السيارة كان أسامة ينظر إلى تلك الشقية التي أحرجت عماد ببضعة كلمات، دون أن تذكر اسمه..
-يا سوسة، ليه عملتي كده؟!
-ما أعرفش، بس المفروض يكون شخصية قويمة يا بابا...
قالتها و هي تضع رأسها على زجاج السيارة، و فجاءة توقفت السيارة أمام المنزل و هبطا و حملت شادن علب الحلويات و دخلت مع والدها إلى الداخل و ما إن دخلت حتى وضعت علب الحلويات و صعدت إلى غرفتها و بدلت ثيابها و ارتدت تريننج ثقيل و هبطت إلى أسفل، و ما إن رأتها والدتها حتى ابتسمت قائلة...
-جدتك عايزاكي يا أم لسانين...
-اعمليلي فنجان شاي يا ماما...
-حاضر، ما أنا تقريبًا هقضي حياتي في المطبخ...
قالتها و هي تتجه إلى المطبخ فضحكت شادن و اتجهت إلى حيث تجلس جدتها و اقتربت منها و قبلت يدها و ما إن جلست بجوارها حتى ابتسمت جدتها قائلة و هي تأخذها تحت ذارعها و تمسد على شعرها قائلة...
-هاا جبتي إيه؟!
-بسيمة باللوز و علبه مشكله.. قالتها و هي تغمز لجدتها
-طيب هاتي حاجة ندوقها يا حبيبة قلبي.
قامت شادن و اتجهت إلى المطبخ و أخذت طبقًا زجاجيًا، و وضعت به بعض الحلويات و اتجهت إلى جدتها و وضعت الطبق أمام جدتها قائلة...
-هاا هتحكيلي إيه يا جدتي؟!
-هحكيلك حكاية الفقيرة و الأمير...
نظرت لها بضيق قائلة...
-سندريلا، سندريلا مفيش غيرها يعني..
-مش عاجبك و لا إيه؟!
-عجبني يا جدتي، احكي، احكي يا شهرزاد.
قالتها شادن و هي تبتسم و فجاءة أحضرت والدتها الشاي و جلس والدها و ذاك الطيف...
أمسكت شادن بفنجان الشاي و أعطته لجدتها بهدوء قائلة...
-و كده القعده تبقى أحلى...
أمسكت الجدة شادن من وجهها قائلة و هي تقبلها...
-حبيبة قلبي يا دونا..
ضحكت شادن من كلمات جدتها و قبلت يدها قائلة...
-احنا من غيرك ما نساواش..
-شوف البت البكاشة؟! قالتها شادية و هي تنظر إلي أسامة..
-خليكي متغاظة كده يا شوشو، قالتها الجدة و هي تغمز لها..
ضحك الجميع و نظرت شادن باتجاه الطيف فوجدته يضحك هو الآخر فابتسمت له، و لاحظ أسامة الأمر فابتسم هو الآخر...
-نبطل ضحك علشان جدتك تحكي الحكاية..
قالتها شادية بهدوء و صمت الجميع...
في جَمعة العائلة تجد سعادة لا توصف، قد تشعر أنك غريب و أنتَ بينهم؛ لأنك لم تكن يومًا قريبًا منهم، انظر مثلًا إذا جلست مع جدتك و أخدت تقص عليك بعض القصص بطريقتها السلسة الجذابة، و أنت تستمع و حولك بقية أفراد الأسرة و ذاك يسأل و هذا يضحك، ستلاحظ أنك في عالم آخر، ستشعر بمشاعر مختلفة، ستنظر إلى الجميع و أنت تبتسم، نعم قد تكون عدة ساعات لكنها مثل عدة أعوام، العائلة هي الأمان و الحماية لك، الدفء و الهدوء، العائلة مجتمع داخل مجتمعنا.
ودقت العاشرة
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى ابنة الشريف
دومًا ما تقص لنا الجدة حكايات قديمة عفها الزمن و لا تواكب العصر الذي نعيش فيه، لكن في حقيقة الأمر تلك الحكايات هي محور الحياة في الماضي و الحاضر و المستقبل، مهما اختلف شكل الحياة و تعددت الثياب و تقدمت الأمم، سيظل الماضي جزءًا لا يتجزأ من حاضر هذه الأمم.
كانت شادن جالسة بهدوء في السيارة و ما إن فتح أسامة الباب الآخر و جلس على المقعد حتى نظرت إليه بهدوء قائلة..
-مش عيب يا بابا تزق عليا حتة عيل ما بيفهمش؟!
تملكت أسامة الصدمة و لم يجد ما يدفع به الحرج عن نفسه و تنحنح قائلًا و هو يشغل السيارة و يدير المحرك...
-أنا يا شادن يا حبيبتي؟!
نظرت إلى الطريق بثبات و تحدثت بمكر قائلًا...
-لأ أنا يا بابا...
ضحك الأب من كلماتها و نظر إليها بهدوء قائلًا...
-و لما أنتِ عارفه إني إللي ورا الموضوع اتكلمتِ معاه ليه؟!
-اتكلمت من باب الفضول فقط لا غير،أنهت جملتها و فتحت النافذة التي تجاورها.
-فضول إيه يا شادن؟!
-الدكتور كان فاكر إني طفله ريفية ساذجة يا بابا.
أجابته و هي تنظر إلى ذاك الطريق المرصوف، ثم بدلت نظرها إلى والدها و تحدثت بهدوء..
-بس أعتقد إن بنت الريف هي إللي ربحت في الآخر.
-شادن إيه إللي بتشوفيه و حكيتي لعامر عليه؟! سألها والدها بهدوء و هو ينظر إلى الطريق بثبات.
-مش يمكن إللي بشوفه ده وهم؟! سألته بسخرية
-عمره ما يبقى وهم يا شادن، قالها الأب بثبات و هو يمد يده ليرتدي نظارة الطريق الليلية.
-دكتورك قال إني مريضة نفسية، هنتظر من حضرتك إيه تقول عني مجنونة.
ألقت كلماتها تلك التي هبطت على أذنه مثل صاعقة مدوية، فنظر لها الأب بصدمة من كلماتها و لاحظ بريق الدموع في عينيها...
-عايز تقول إيه يا بابا؟! سألته و هي تنظر إلى الطريق بثبات، فأجابها و هو يضبط المرأة قائلًا...
-هو معانا صح؟!
-آيوه، موجود...
-و أنا مصدقك، بس مش عايز حد غيرنا يعرف بالموضوع ده يا شادن و بالنسبة لدكتور عامر أنا هعرف أتعامل معاه كويس.
نظرت له بصدمة عقدت لسانها عن الكلام، فابتسم الأب بهدوء كأنما بتلك الإبتسامة يؤكد لها كلماتها، فأخذت دموعها تنهمر على
وجنتيها، شعر الأب بها فركن السيارة على جانب الطريق و احتضنها قائلًا...
-عمري ما شوفتك ضعيفة كده يا شادن...
-مخنوقة يا بابا، ليه ده كله بيحصلي، أنا ما صدقت خلصت من إحساسي بإن فيه ناس حواليا، ليه حياتي تتقلب مره واحدة، و إللي فوق يبقى تحت و العكس..
أنهت جملتها و انهارت أمام والدها، كأنما تلك الحصون التي كونتها طوال تلك الأعوام، أصابها سيل ماء حاد فدمرها، أخذها والدها في أحضانه قائلًا...
-استغفري ربنا، و احمديه يا شادن، إللي بيحصل معاكِ ده ما هو إلا تجربة صغيرة و اختبار من ربنا علشان يشوفك هتصبري و لا لأ، و بعدين أنتِ إنسانة مؤمنة مش كده و لا إيه؟!
-استغفر الله العظيم وأتوب إليه، بس أنا مخنوقة، حاسه إني داخله مكان مش بتاعي، و فوق ده و ده مش قادرة أساعده بحاجة.
كانت كلماتها مثل زخ المطر، و فجاءة عصفت الرياح بأوراق الشجر، و هبط المطر من السماء كأنما رب الخير يواسيها و بخيرها بأن الخير قادم إليها مهما كان ما تمر به، نظرت إلى زجاج السيارة الأمامي و ما إن رأت قطرات المطر حتى ابتعدت عن أحضان والدها، و فتحت باب السيارة و وقفت أسفل تلك المياه المنهمرة من أعالي السماء و شخصت ببصرها إلى السماء قائلة بصوت حزين و قلب مفطور...
-ربي إني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين.
آه ما أجمل ذكر اسمك يا رب وقت الشدة، و ما أجمل حمدك وقت النعمة، يا ملجأ العصاة عند التوبة، و المستضعفين وقت النكبة، و يا ناصر المظلوم على الظالم، و مفرج كرب المهموم الهائم، ما أجمل ذكرك في قلوبنا و عقولنا، ما أعظم أن تقر الجوارح بجودك يا رب قبل الألسن.
أخذت تستدير وسط الطريق و عينيها شاخصة إلى السماء و قلبها يلهج باسمه قبل لسانها، حالة من الخشوع له وحده، حالة من الخضوع التي لم تمر عليها من قبل، كان ذاك الأب الصالح ينظر إليها بعينين تمتلئ بالدموع، أمام ذاك الطيف فكان يلاحقها كأنما هو انعكاس لظلها على الأرض في نهار صيف مشمس، نظرت إلى السماء قائلة بصوت مرتفع هُزت معه أوراق الشجر...
-لك الحمد يا الله...
أنهت جملتها فأضاءت السماء بقبس من نور المولى، فانحنت ساجدة لله في خشوعٌ و سط تلك المياه التي أغرقت الشوارع، لم تعبء لثيابها التي تشربت الماء، هبط والدها من السيارة و اقترب منها و ربت على كتفيها بحنان قائلًا...
-يلا علشان الوقت اتأخر و علشان نجيب الحلويات لجدتك بدل ما هتطردنا من البيت.
قامت و ضحكت من كلمات والدها بينما قام والدها و نظر إليها بهدوء قائلًا...
-يلا جايب طفلة أنا تلعب معايا.
قامت و نظرت له بتحدٍ قائلة..
-إذا كان عاجبك بقى يا سي بابا.
-طيب يا أم لسانين..
أخذها و سارا باتجاه السيارة و ركبا و اتجه إلى الحلوانى ليشتريا بعض الحلويات ويعودا إلى المنزل، و ما إن وصلا حتى كان صاحب المحل يهم بإغلاقه بسبب المطر و الهواء العاصف، هبط أسامة من السيارة و اتجه إلى الرجل قائلًا...
-استنى يا حاج سعيد.
-قفلت خلاص تعالي بكره، قالها دون أن يستدير لأسامة و عندما هَم بإغلاق الباب وجد أسامة أمامه فنظر له قائلًا...
-ده أنا افتحلك عشرين محل اتفضل يا دكتور..
-الله يعزك، كنت عايز منك تشكيلة حلويات على كيفك و ٢ كيلو بسيمة باللوز لوحدهم..
قالها أسامة بإبتسامة، فنظر له الحاج سعيد قائلًا...
-من عيوني يا دكتور..
دخل إلى المحل و لف له ما طلب و خرج و مد يده العلبة قائلًا...
-اتفضل يا دكتور بالهنا و الشفا..
-على قلبك يا حاج سعيد، حسابك كام؟!سأله و هو يخرج المحفظة من جيب بنطاله، فأمسك الحاج سعيد يده قائلًا...
-ده خيرك و خير والدك يا دكتور، و عيب إللي أنتَ بتعمله
-لأ معلشِ يا حاج، و الله ما تحصل، ده تعبك...
-يا ابني، دي هدية مني ليك و للحاجة والدتك، الله يحفظها، قالها الحاج سعيد و هو يضع يمناه على كتف أسامة، فابتسم أسامة بهدوء قائلًا...
-طيب اقفل و تعالى معايا علشان عايزك...
-حاضر يا ابني.
أغلق الحاج سعيد المحل و اتجه مع أسامة إلى السيارة و ما إن وصلا حتى فتحت شادن الباب الخلفي للسيارة..
-اتفضل معانا..
-لأ يا دكتور ده عماد ابني زمانه جاي...
و ما إن أنهى كلمته حتى أتى عماد بالشمسية، فنظر له أسامة قائلًا...
-طيب و الله يا حاج سعيد لو ما ركبت أنتَ و أسامة معانا لتكون بزعل.
-ليه كده يا أسامة؟! قالها الحاج سعيد بخرج، فنظر له أسامة قائلًا بإبتسامة...
-اركب يا رجل يا طيب.
و بالفعل ركب الحاج سعيد و عماد في الخلف و اتجه أسامة و ركب بجوار شادن و أشعل مصابيح السيارة الداخلية بهدوء شديد.
نظرت شادن إلى انعكاس صورة الحاج سعيد في المرآة قائلة بأدب..
-اذيك يا جدو، حضرتك عامل إيه؟!
-الله يسلمك يا غالية، بخير يا بنتي الحمدلله، أجابها بهدوء، فنظر أسامة إلى عماد قائلًا...
-عامل إيه يا عماد؟!
-بخير و الله يا دكتور، قالها بإبتسامة هادئة و هو ينظر له..
-أخبار دراستك إيه؟!
-دراسة إيه بقى، عماد خلص و بقى معيد قد الدنيا في كلية علوم قسم رياضيات، قالها الحاج سعيد و هو يضع يده على ظهر ابنه بفخر.
و هنا رفعت شادن رأسها و نظرت إلى انعكاس صورة عماد في المرآة لتراه عن كثب، و لاحظ أسامة الأمر لكنه لم يبدِ اهتمامًا إلا عندما لاحظ تلك النظرات الساخرة في عيني شادن...
-شادن في حاجة عايزه تقوليها؟!
-هااا، أبدًا يا بابا، بس افتكرت حكاية سمعتها في المدرسة عن معيد في كلية و كنت بفكر فيها، قالتها و هي تنظر إلى والدها بهدوء و ترمق ذاك الجالس في المقعد الخلفي بطرف عينيها..
-حكاية إيه يا قلب بابا؟!
-سمعت إني في معيد في كلية ماشي مع نص بنات المدرسة عندنا
ما إن أنهت كلماتها حتى اتسعت عينا عماد من الموقف الذي بات فيه.
-يخربيته نص بنات المدرسة، قالها أسامة بصدمة...
-بس مش ده السؤال، السؤال هو ده ينفع؟! ما تجاوبني يا دكتور عماد، قالتها و هي تنظر إليه باحتقار...
-لأ ما ينفعش يا أنسة، قالها و هو يخفض وجهه خجلًا..
-يا ريت تفكره إن بكره هيتعمل في حد من أهل بيته كده، أصل واحد صاحبك و أنتَ عارفه كويس أوي...
قالتها و هي تستدير و تجلس بثبات كأنها لم تفعل شيئًا، نظر لها والدها بهدوء..
-مين ده يا شادن؟!
-واحد بقى الله يسهله يا بابا و يهديه...
-بس ده قليل تربية يا بنتي، ازاي يعمل كده؟! قالها الحاج سعيد بعفوية، فنظرت إلى انعكاس صورة عماد في المرآة قائلة...
-لأ هي مش قلة التربية؛ لأن أكيد أهله ناس محترمة، هو كل ما في الموضوع إنه شايف نفسه حبتين.
نظر لها عماد بهدوء فقد توقع منها أن تنعت تربيته بأبشع الصفات، إلا أنها فاجأته بكلماتها تلك.
-أكيد هيعقل قريب يا أنسة، قالها عماد و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، فنظرت إلى انعكاس صورته في المرآة قائلة..
-أتمنى، على الأقل يكون لائق بمكانته الاجتماعية، و الأمانة إللي حاملها.
مرت عدة دقائق و وصلا إلى منزل الحاج سعيد و توقفت السيارة، و هنا نظر الحاج سعيد إلى شادن قائلًا...
-أتمنى أقابلك مرة تانية يا بنتي.
-أكيد هنتقابل لو لينا نصيب، قالتها و هي تنظر إليه و على وجهها ابتسامة هادئة.
هبطا الحاج سعيد و عماد من السيارة، و ودعهم أسامة بعدما أخذ الحاج سعيد يلح عليه بالدخول إلا أنه رفض، و ما إن ابتعدت السيارة حتى نظر الحاج سعيد إلى عماد الذي لم تتزحزح عينه عن الطريق قائلًا...
-عجبتك؟!
-هااا..
-هاا إيه، ده أنتَ شكلك واقع، قالها و هو يضحك ثم ضربه على كتفه و فتح باب المنزل...
-مش مصدق إن دي في أولى ثانوي، قالها بعماد بفم مشدوه...
-طالعه لجدتها، جدتها كانت كده، و كانت كلمتها بتمشي على الكل، الكبير قبل الصغير...
قالها الحاج سعيد و على ثغره ابتسامة هادئة و دخلا إلى المنزل..
-بصراحة كلام الواد عمر عنها ما كنتش مصدقه، لكن اظاهر إنه كلامه صح..
-دي تربية الحاجة أم أسامة يا عماد، و إللي زي دي تتشال جوا العين.
-كلامك صحيح يا بابا.
في السيارة كان أسامة ينظر إلى تلك الشقية التي أحرجت عماد ببضعة كلمات، دون أن تذكر اسمه..
-يا سوسة، ليه عملتي كده؟!
-ما أعرفش، بس المفروض يكون شخصية قويمة يا بابا...
قالتها و هي تضع رأسها على زجاج السيارة، و فجاءة توقفت السيارة أمام المنزل و هبطا و حملت شادن علب الحلويات و دخلت مع والدها إلى الداخل و ما إن دخلت حتى وضعت علب الحلويات و صعدت إلى غرفتها و بدلت ثيابها و ارتدت تريننج ثقيل و هبطت إلى أسفل، و ما إن رأتها والدتها حتى ابتسمت قائلة...
-جدتك عايزاكي يا أم لسانين...
-اعمليلي فنجان شاي يا ماما...
-حاضر، ما أنا تقريبًا هقضي حياتي في المطبخ...
قالتها و هي تتجه إلى المطبخ فضحكت شادن و اتجهت إلى حيث تجلس جدتها و اقتربت منها و قبلت يدها و ما إن جلست بجوارها حتى ابتسمت جدتها قائلة و هي تأخذها تحت ذارعها و تمسد على شعرها قائلة...
-هاا جبتي إيه؟!
-بسيمة باللوز و علبه مشكله.. قالتها و هي تغمز لجدتها
-طيب هاتي حاجة ندوقها يا حبيبة قلبي.
قامت شادن و اتجهت إلى المطبخ و أخذت طبقًا زجاجيًا، و وضعت به بعض الحلويات و اتجهت إلى جدتها و وضعت الطبق أمام جدتها قائلة...
-هاا هتحكيلي إيه يا جدتي؟!
-هحكيلك حكاية الفقيرة و الأمير...
نظرت لها بضيق قائلة...
-سندريلا، سندريلا مفيش غيرها يعني..
-مش عاجبك و لا إيه؟!
-عجبني يا جدتي، احكي، احكي يا شهرزاد.
قالتها شادن و هي تبتسم و فجاءة أحضرت والدتها الشاي و جلس والدها و ذاك الطيف...
أمسكت شادن بفنجان الشاي و أعطته لجدتها بهدوء قائلة...
-و كده القعده تبقى أحلى...
أمسكت الجدة شادن من وجهها قائلة و هي تقبلها...
-حبيبة قلبي يا دونا..
ضحكت شادن من كلمات جدتها و قبلت يدها قائلة...
-احنا من غيرك ما نساواش..
-شوف البت البكاشة؟! قالتها شادية و هي تنظر إلي أسامة..
-خليكي متغاظة كده يا شوشو، قالتها الجدة و هي تغمز لها..
ضحك الجميع و نظرت شادن باتجاه الطيف فوجدته يضحك هو الآخر فابتسمت له، و لاحظ أسامة الأمر فابتسم هو الآخر...
-نبطل ضحك علشان جدتك تحكي الحكاية..
قالتها شادية بهدوء و صمت الجميع...
في جَمعة العائلة تجد سعادة لا توصف، قد تشعر أنك غريب و أنتَ بينهم؛ لأنك لم تكن يومًا قريبًا منهم، انظر مثلًا إذا جلست مع جدتك و أخدت تقص عليك بعض القصص بطريقتها السلسة الجذابة، و أنت تستمع و حولك بقية أفراد الأسرة و ذاك يسأل و هذا يضحك، ستلاحظ أنك في عالم آخر، ستشعر بمشاعر مختلفة، ستنظر إلى الجميع و أنت تبتسم، نعم قد تكون عدة ساعات لكنها مثل عدة أعوام، العائلة هي الأمان و الحماية لك، الدفء و الهدوء، العائلة مجتمع داخل مجتمعنا.
ودقت العاشرة
لـِ الكاتبة سهيلة آل حجازى ابنة الشريف
الوسوم:
ودقت العاشرة