المحاكمة

مقتبس من رواية المطهر
 في نهاية نوفمبر قالوا لي: أيها العجوز المشرد المتمرد أترك لنا اعترافًا الليلة!

استمعت لهم وتأخرت عنهم واكتبه لهم الآن كما ترون.. أنا متمردًا تأخرتُ بضعة أيام.. وهم تمردوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم وقيمهم ودينهم وعلى خالقهم وأخلاقهم ولم يحرك أحدهم لسانه مخاطبًا نفسه بعتاب.. ولأني خالفتُ اوامرهم مرة أصبحت ذا الفاجر المتمرد المنافق اللعين والكذاب.. لا أفهم ما شأن فعلي بالصفاتِ التي الحقوها بي لكن.. لا أعلم هم فقط فعلوا.. والباقي لم يقصروا في واجبهم وباتوا يناموا ويستيقظوا ولا يفعلون سوى أن مثلهم يرددوا!

حسنًا سأعترف كما طلبتم مني.. 

أنا فقط أمقتكم.. من فضلكم يا قوم ابتعدوا عني..

تريدون اعترافًا فهاكم اياه.. رغم أن في كتابهِ اللهَ كرّمكم، أنتم أسوء ما خلق.. كنت أمقط كل المخلوقات سابقًا لعلمي المحدود.. كنت أقول "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وإن كان هذا الأفضل وهو بهذا السوء رغم أن ما مدحه له شأن عظيم فما بال من هم أدنى منّا.. بعدها اكتشفت أن الآية هنا تتحدث ظاهريًا.. أنتم الأفضل بنيانًا تناسقًا جسدًا والأسواء روحيًا.. باطنكم مظلم.. وداخلكم قذر ومع ذلك تلومون جسدي الطاهر من كبير المنكرات.. فقط لأني شخصًا بسيط!

لقد كان الأنبياء أشخاصًا بسطاء.. وكانا فراعينهم مهرولين وملتهبين بالدنيا وزخرفها الم يلمح هذا لكم بشيءٍ ما؟ أنا نبيكم هنا يا متجبرون أفلا تتبعوني.. قالها عجوزًا أدعيتم أنه مخرب مجنون لعين.. وقضيته فقط أنه كان يقيم الدين، فأي منا يستحق الحياة لو تعقلون..

الآن فهمت.. أنتم تستحقونها.. لا حاجة لأمثالي في دنيا تقويكم وتبنيكم على عبادتها نحن لغير اللهِ لا نخضع.. أنتم لله والشهوات خاضعون.. وبعضكم... تعلمون ما اقصد اختفاء الكلمة لا تعني أنكم لها لستم بسامعون

تريدون اعترافًا تفضلوا.. واليكم بسؤال: ماذا ستفعلون.. حين تجدوا الأرض تهتز فتخرج ما بباطن القبور صراعا وأحياء.. حين تجدوا المشيب متملص من الأطفال وكأنه مرضًا لعين ولكنه يوم الحق وليس يوم الوباء، وحين تجدوا القوة خارت من خيرة الرجال، فلا مال هنا ولا ما في الحياة من جمال ولا حتى استجابةٍ من رب السماء.. حين تجدوا الجميع يقول نفسي، نفسي، حين تصبح ليوم فيه لا تمسي؟ ماذا ستفعلون؟ حين بأمره يُثقب السد ولا ينغلق فيفتح قوم كالجراد على أرضكم لها مُبيدون، حين تنغلق عليكم الدنيا فلا تدرون ما بال هذا القوم لكل شيء شاربون وآكلون ولا يدري منكم ماذا عليه أن يفعل فماذا ستفعلون؟

تركت اعترافي لهم علنًا ولكن على ما يبدوا لم يعجب سادتهم فثاروا عليَّ.. غدًا يقولون أن في مكان يُسمى المحاكمة يوجد قاضٍ سيحكم في قضيتك بشيء في الدنيا يُسمى العدل.. فقلتُ هلكتُ في الدنيا ومنها نجوت.


(المحاكمة)

وقف محامي الهجوم ووقفت مدافعًا عن نفسي..

بدأ الرجل يهاجم كلماتي مدعيًا أني سببته وأسب العامة والخاصة واحقر شأنهم وبدأ يتلوى بلسانه كأن ما بفمه أفعى فحيحها يطرب السامعين مهاجمًا لاعترافاتي طالبًا وضع القيود حول يدي.. بدا يهاجم كيف لعلية القوم أن يُهاجموا من أحمقٍ مثلي مشردٍ وبدا يثرثر ويثرثر بلسانٍ حذق لعين.. ومعه من البينات آلافًا وملايين.. بينات تدخل العقل صراحةً تظنها حقيقة ولا أدري متى حدثت ومن أين أتت ولكن لا رادع لها.. أذنبتُ وأنا غيرُ مذنب.. سببتُ قومًا لم أسميهم فسموا أنفسهم وحاكموني.. اللعنة.

انهى محامي الهجوم تلفيقاته وثرثرته وطلب مني القاضي الدفاع عن نفسي.. لذا سأبدأ...

امنحوني الحق في الدفاع عن نفسي سيداتكم كما منحوا أنفسهم الحق في هجومي، لم تتحمل هرموناتهم الغير إنسانية النظر لشمسي، فشكَّكوا جميعهم في حقيقة نجومي، ولكني هذه المرة هالك لذا لن أصمت ولا يطلب لعينٍ مني أن أهدأ..

جميع من في القاعة هنا هجومٍ ودفاع، جميعكم من أجل عدة وريقات نقدية يظن بعضكم أنه يشتري الآخر، ويقبل الآخر أن يُشترى ويباع؟ بعتم ضميركم، مبادئكم، شرفكم أخلاقكم، ومن دون أن تدروا أنكم هكذا بعتم دينكم بورقة نقدية، كم أن حالتكم المزرية.. لكن لا يهم هذه قضيتكم ولا اريد أن أتطرق في كثير من القضايا الآن..

سيادة القاضي جميع من في القاعة هنا يعلم أن هذا الواقف أمامكم يهاجمني ما هو إلا داعر أحمق سافل لعين، هو وكل من يحاول التلاعب في قيم المجتمع العربي الأصيل، ومجتمعنا الشرقي العظيم، وكل من فكر لوهلةٍ أن يهاجم بدون حق ويتلاعب في عقول الناس قاصدًا مهاجمة الدين..

اقولها علانيةٍ دون أن أرتجف، رغم أن مسبقًا وجنتاي من بكاء عيني لم تجف، دينكم يحتضر يا حمقى، وليس الدين بزائل، سيذهب عنكم لخير منكم، وغدًا تختلط عليكم أبسطُ المسائل، هم لن يهاجموا دينكم مباشرةً يا من لا أدري ما هو دينك، يكفيني أنه كتاب سماوي جميل.. 

سيتلاعبون بعناصره، حتى تحيد أنت عنه وفجأة تجد نفسك دون الحاجة لتدخلهم من يُهاجم الدين، سيغيرون مفهوم الحياء عند النساء، فتصبح عورتكم مباحة، بداية من الحجاب مواليًا لِمَ تيسر من مساحة، وسيغيرون مفهوم الربا فالأمانة بمسمى التجارة، وهكذا تُدار الأعمال، فتتبعهم وفي كينونتك دون أن تدري، أن الدين يرديك فقيرًا ولا يُحب جني المال.

قالوا عنِّي الكثير من المسمّيات والسباب وقالوا ما ليس فيَّ كما هو موضح أمام سيادتكم من الكذب والتلفيق، وقلبوا كل طاولة عليَّ وجعلوا كل من في الأرض عدوًا حتى من كان لي أعز صديق، من قال كاذب، ومن زاد بفاجرٍ وما رأيتُ يومًا أفجر منهم، أنا لا أدافع عن نفسي هنا، أنا أعلم الحكم مُسبقًا، دفعوا للجميع ولم يكونوا بحاجة لأن يدفعوا لك، ما كنت لتقبل رُبما، وما كانوا ليستفادوا ربما أيضًا ففي النهاية أنت بنزاهتك تحكم بالعدل وقضيتي تحتاج لمن يحكمُ بالحق.. العدل يحتاج لأدلة لذا هو الوضع الصحيح في الدنيا، لذا أنا لا أعتبر هذه محاكمتي، محاكمتي في السماء، هي فقط تحتاج ليقين، ومع ذلك ورغم عدم حاجتنا له، ستجد الدليل، لكن حقًا بين قوسين (الدليل).

#الكاتب_الرمادي

الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم