أنت وأمثالك السبب

 أنت وأمثالك السبب

أرتينا_روما 1877

ضباب روما الذي يخبئ نور القمر من خلفه، من وسط أصوات ضّبح البوم لليل في جوفه، في الشوارع التي كادت أن يُسمع همسها فجرا، وهناك على حواف بركة يغطى رصيفها بقطرات الندى؛ مياهًا تعكس أقدام شخص يرقض إثر زعر من شيء ما ويقول بصوت عالِ "أنت وأمثالك السبب" !

وبعدما تخطى ذلك الشخص البركة بلحظات، يتكرر المشهد مرة أخرى ولكن لرجل مُدُّثر الوجه بين قبعة سوداء دائرية الحجم كبيرة، لا يظهر من وجهه إلا لحيته سوداء اللون، يكسوه معطف يظهر ضخامة جسده، يسير ببطئ وكأنه يقصد ذلك الشخص وهو يعلم مهربه، ثم يختفي المشهد لدقائق، 

وتهتز القرية لصوت صراخ مرعب يوقظ النائمين في الدجى، فأتى كل رجل من بيته والتفوا حول جثة رجل يسيل دمه وجميع أصابع يداه مبتوره فتتشاحب الأنظار وتأبى الوجوه ثم تكثر الأسئلة ويزعم الجدال فيما بينهم، وتتسع دائرة المشاهدين والكل على نظيره ويأبى الاقتراب إلى تلك الجثة خشية الوقوع في أثرها، فيأتي الصباح وتزهر أرجاء القرية إلى أن يسيط أمر ذلك الخبر ولم يقترب وقت الظهيرة حتى أُفسحت الشوارع لأقدام حكومة "روما" وعمّت الضجة أجواء المكان. 


اتسع المكان للجام عربة الشرطي التي تجرها الأحصنة، فنزل شرطيين بأمر من شخص يبدو أنهم يتبعون أوامره ولم يكد يحرك رأسه نحومها إلى أن قال وهما ينزلان من تلك العربة: "أنهوا الموضوع الليلة" ثم أمر بتحريك العربة وانصرف ولم يتبقى إلا شرطي سمين يرتدي قبعة والآخر صاحب ملامح حادة ويرتدي ملابس المحققين، وكلامهم يتفقدون المكان بأعينهم وتتصادم أعينهم ببعض الأشخاص الذين ينظرون هم الآخرين إليهم. 


وفي مساء تلك الليلة بعدما اسود الدجى، أمر المحقق"الشرطي" بإحضار تلك الجثة وبالفعل سرعان ما جيئ بها، ثم أوقفته خيفة في نفسه وهو ينظر لبشاعة المنظر من أمامه ويقول في نفسه، "من ذلك السفاح الذي سيذبح شخص ويأخذ أطراف أصابعه ثم ليضع تلك الأداة الحادة في جوف بطنه بتلك الحرفه ويخرجها سريعا".


ثم يقاطع انشغاله فتح الباب للشرطي السمين، وهو يقول : قد سألت القرية كلها سيدي، ولم أجني شيء سوى مرأة تدعي أنها تعرفه، ويزورها في بعض الأحيان. 


فاستوقف ذلك الخبر عين الشرطي التي توسعت بدهاء ثم قال له "خذني إياها حالا" 


وما إن وصلا إلى باب المنزل الذي يعلوه الرقم السكني 36، حتى سمعا صوت المرأة ترقص وتغني بالداخل، فنادى عليها ذلك السمين وهو يطرق الباب حتى سكتت من بالداخل وفتحت الباب ونظرت من خلفه ببطئ، وعندما رأت الشرطيان فتحت الباب وهي ترتدي قميص ساخر الشكل وتتلوى وكأنها لا تهتم لأمرهم، ثم أذنت لهم بالدخول.


فرد المحقق يقول "نحن لم نأتي للزيارة سيدتي، نريد معرفة القاتل التي تدعين أنكِ تعرفيه"


فضحكت بصوت عالٍ ثم ردت قائلة" يا فتى ألا تعرفه أنت؟ على العموم إنه قد فعل ذلك لمجرد الحاجة إلى المال كي يشتري النبيذ ليس إلا وفي وقت فراغه يأتي إلى هنا تارة للبيات وتارة لطلب المال، ثم إنه لم يأتي منذ فترة ولكنه الآن في حالة من الجنون بسبب إدمانه، حتى أني لا أعرف اسمه"


ثم تقدم السمين بغضب وهو يتحرك لضربها كي تكمل كلامها التي تخبئه.


فأمسكه الآخر وأمره بالسكوت، نظر إلى تلك المرأة وقد بدى عليها القلق الشديد ثم وقال: ألا تعرفين أي شيء آخر عن ذلك الشخص سيدتي ؟


فصمتت وهي تحرك رأسها بالنفي. 


فتقدم الشرطي بضع خطوات داخل ذلك البيت وأخذ زجاجة نبيذ قد شدت انتباهه وهي تحت الطاولة بجانب تلك المرأة، وقال : نعتذر لكِ على الزيارة المفاجأة، 

  

ورحل.


.........

وفي منتصف الليل والشرطي يضع رأسه على المكتب ويدق بأصابعه الثلاثة على الطاولة ويقول في نفسه" لن استطيع أن أهرب كثيرا مما يهمس به قلبي، لذلك فالأفضل أن استمع لما يقوله"، ثم سكت للحظة وفجأة نهض بسرعة وفتح الأدراج وهو يبحث شيء ما، ثم وقف وهو يبحث عن أوراق موضوعة أمامه إلى أن أمسك بورقة ثم أغمض عينيه التي احمر لونها من أثر السهر وأخذ نفس عميق ثم قال :" تلك هي !"


وأخرج زجاجة النبيذ التي احتفظ بها من حقيبته وبدأ بقراءة الكلام المكتوب عليها إلى أن وصل لكلمة وتوقف عليها بإصبعه، وظل يبحث بعينيه في الورقة التي يمسك بها في اليد الأخرى وفجأة تحدقت عينيه لشيء ما ثم وضع الزجاجة والورقة على المكتب وجلس كما كان بهدوء وهو يقول "إنه هو، المقتول هو بائع النبيذ لذلك الرجل، وقد قتله لسبب ما ! واسم الدكان لذلك الرجل تجد اسمها مختوم على الزجاجة، لابد أن المرأة تعرف.


فقاطع تفكريه ذلك الشرطي السمين الذي تعجب من هيئة المحقق المبعثرة ووجهه الذي يبدو عليه الأرق، ثم قال : عذرًا سيدي ولكن القرية كلها قد هاج أمرها، المرأه التي كنّا عندها منذ ساعات قد قتلت !


....


ثم ينتقل المشهد في عين تلك المرأة، ويبدو أنها مذعورة تماما من أمرها! وتنظر يمينا ويسارًا ولا تتحرك تماما، وهي تحاول النجدة ولكن لا فائدة، كأنها تطلب المساعدة أو تريد الصراخ.

ثم يأتي صوتٌ بجانبها يقول : أعلم أنكِ حيّة !

ولكن قد أطلتِ البقاء، ولم أجد منكِ منفعة، ولكن يجب حقا أن أشكركِ _أعطيتيني كل ما احتجت إياه _ لذلك سأمنحك هدية البقاء ربع ساعة ثم لتودعي منزلك الصغير؛ وما إن أنهى ذلك الضخم كلامه معها وقد أحس أن أحد يختلس السمع من الباب فصمت، ثم اقترب من الباب ببطئ وما إن علم الآخر بإتيانه فر هاربًا لإحدى البيوت المجاورة لباب ذلك البيت وعندما علم ذلك الرجل بالأمر؛ فتح الباب وجرى مسرعًا وقد وقعت منه ورقة وهو يفتح الباب، ثم صاير هروبه إلى أن وصل لأخر شارع ونظر خلفه وقد رأى أن ذلك الرجل قد كشف أمره للناس وبدأ التجمع مرة أخرى. 


...

ثم يعود المشهد مرة أخرى للشرطي وهو واقف أمام بيت المنزل مجددا ويتفقد كل شيء بعينه، ووجد الورقة التي تركها الرجل خلفه ومكتوب فيها "المجوعة الأولى، بائع النبيذ الحقير يذبح وتبتر أنامله....الخ، والمرأة الجميلة تموت بحقنة تشل حركتها ثم تلقى حدفها، والساعي السمين يموت بالأداة 33" ...

فأحدد الشرطي نظره على الجملة الأخيرة وهو يقول في نفسه" أكيد أن تلك الورقة من ذلك السفاح، وما أمر المجموعة الأولى تلك ومن هو السمين ؟! الرقم 33 يدل على قتل الضحية إثر السم ! أيعقل !"


ثم طوى الورقة ووضعها في جيبه وهو ينظر أمامه للمرأة الملقاة على الأرض ويبدو على جسدها أثار ضرب وفي رقبتها حقنة قد أفرغت ما بها، وما إن تحرك بضع خطوات إلى أن جاء القائد من خلفه ويقول "أفسحوا الطريق، ما الذي حصل". 


فنظر إليه الشرطي وقد خفق قلبه لوهلة ثم قال "يبدو أن هناك ضحية جديدة سيدي" 


فابتسم الرجل نصف ابتسامة ثم قال " أرى أن مهمتك قد انتهت هنا، لتجهز أغراضك وغدا ستمر عليّ أنت ومساعدك لضيافتكم ومن ثم سنرى أمر تلك القرية على يد شرطي ماهر".


وعين الآخر قد ثبتت على عينيه وعلى طريقة كلامه ثم حال الصمت بينهم.


....


وبالفعل في صباح اليوم الثاني بعدما أغلقت أوراق القضية، ولم يتكلم الشرطي مع أحد تماما، عند وصوله لمكتب قائد المدينة الذي أمره بالمهمة، أمر للتو بنزول الطعام، وقد جهزت الطاولة لثلاثة أشخاص، وبالفعل قد نزل الطعام ولكن قد بدى على القائد الغضب لعدم رؤيته النبيذ المفضل له على الطاولة، ثم وقف وقال" أغبياء، سأحضره أنا بنفسي". 

وخرج من تلك الغرفة متجها لإحضار زجاجته التي يريدها، ثم نظر الشرطي إلى مساعده السمين بسرعة وقال بصوت منخفض" لا تأكل من ذلك الطبق، بدل طبقه الخاص بطبقك فورًا!"


محمد عماد




الكاتب الرمادي

إن لم ترى نفسك في عيون الآخرين فأعلم أنك لم ترى نفسك مطلقًا وأن عقلك يخدعك عن ما تعرفه عنك لا محالة.. فلم نخلق لنرى ما بداخلنا بل لننظر داخل الآخرين..

إرسال تعليق

أحدث أقدم