كان هناك تجمع مِن البشر، كثيرٌ مِن الأشخاص يصورون شيئًا ما، وهناك ديمون بعيدٌ عنهم يحمل الكاميرا بيده، ويصور أيضًا، وعلى ما يبدوا أنه يصور الحشد، بعد أن انتهى من تصوير ما بداخله.. دعونا نرى ما الذي جمع حزمة العصي فجأة بعد أن كانت منفردة...
ما هذا بحق الجحيم! شاب عشريني يربط معاقًا ذهنيًا في عمود إنارة ويقوم بمضايقته عن طريق سكب المياه عليه بسخريةِ واستمتاع! في وضح النهار! ووسط كل هذا الكم مِن البشر! لا أحد يتدخل! يا للهول! الآن فهمت ما كان يقصده ديمون بجملته السابقة.. وضع ديمون الكاميرا في حقيبته وأِقترب مِن ذلك الشخص، ثم قام بلكمه لكمةً أسقطته أرضًا، ثم فك وثاق المسكين الذي لا حول له ولا قوة للدفاع عن نفسه، بل هو حتى لا يفهم لِمَ تم الاعتداء عليه بهذا الشكل.. ما إن فك وثاقه حتى أِستجمع ذلك الأحمق الوقح قوته وقام ليهجم على ديمون في بربرية ساذجة، لكن ديمون تفادى ضربته ولكمه مجددًا بينما الحضور لم يتحركوا مِن مكانهم بل وقفوا بهواتفهم مستمتعين بالسادية القائمة صوب أعينهم المتكررة بمختلف ألوانها كل يوم، حتى في منازلهم، يشاهدون للمرة الألف باستمتاع المرة الأولى رغم الروتينية الفظة لهذا المشهد.
نظر ديمون له ثم لهم وقال: تخلصوا جميعًا مِن جنود باندورا الساكنة بداخلكم، قبل أن يأتي المطهر ليتخلص منهم فيتخلص منكم..." قبل أن ينهي حديثه أُصيب بالصداع فجأة فحمل نفسه وهرب بسرعة تراها في خفةِ خطواته في مشهد عجيب أصابَ ذهول الحضور أجمع، حتى أن الجميع ظنوا أنه مجذوب ركض سريعًا نحو سيارته، ثم ضغط بزر فيها و... ماذا يحدث، لِمَ يتم رمينا هكذا! أين نحن؟ فهمت لقد نظر لبطاقةٍ أخرى.
على أحد الطرق السريعة، حيث غروب الشمس بلون الشفق البرتقالي البديع، أمامه البحر وخلفه علي الجانب الآخر مِن الطريق بعض الأشجار وكأنها مدخلٌ لغابة ما، تستطيع بكل استمتاع النظر للسماء حيث ترى سرب من الطير يحلق بأسلوب خاطفٍ للأنظار صانعًا أشكالًا جميلة في تحليقه، وبينما ديمون ممسكٌ بكاميرته يصور باسترخاء، سمع صوتًا جعله يقوم بإنزال الكاميرا على الطريق؛ ليصور الطريق الخالي أمامه مِن كل شيء إلَّا صوت سيارة لا يراها، كان يصور فيديو، ولا تعلم ما المغزى مِن تصويره هذا لكنه هكذا يقاتل الوقت حتى يمر، أتت سيارة مسرعة نحوه بسرعة جنونية، مرّت من أمامه، فقام ديمون بإخراج سلاحٍ مِن سترته وبسرعةٍ خاطفة أطلق على السيارة.. أصاب الهدف، ركض نحو سيارته بسرعة، وبدأ يراقبهم عن طريق جهاز التتبع الخاص به، ابتعد عن ماضيه لكن أدواته مازالت معه، والغريب أن الصداع لا يأتيه مع استخدامها.. نظر في الجهاز وبدأ السير خلفهم ليرى لِمَ كل هذه العجلة، وإن كانوا بحاجة لمساعدةٍ مادية أو ما شابه سيقوم بمساعدتهم، ثم بدأ بالسير خلفهم، لم يكن يسير بنفس سرعتهم، حتى لا يشكّون بشيء لكنه كان قريبًا منهم حسب جهاز التتبع الخاص به، فقد كان يُلصق كبسولة تتبع في سيارتهم، لم يطلق النيران كما خطر في بالكم في اللحظةِ الأولى.. وصلوا لمكانٍ مهجور نوعًا ما، نزلوا مِن سيارتهم، ومعهم... إنه ينظر لصورةٍ مختلفة.. ذكروني المرة القادمة أن ندخل للحصين نبحث في ذاكرته كيفما شئنا.. ما كل هذه الأطفال؟ مدرسة! الأمر شيق جدًا..
ظلامٌ حل على المكان، عدنا للخلف عدة أيام.. فتاة صغيرة، ترتدي ملابسًا رثة، لها ابتسامة خاطفة، لا أعلم أي الينابيع مصدر تلك الابتسامة، أهو من شدة الأسى، أم تلك هي البراءة، ولربما هي سعيدة.. وربما أخرى هذا هو الينبوع العام الذي يجمع كل المشاعر ليخلطهم في بعضهم منتجًا شعورًا لا تدري فيه حال هذا الشخص أبدًا ولا حتى هو يدري كذلك.. ضباب! رعد.. اللعنة، خُطف نظري مع ضوء البرق لفينةٍ، لتعود الصورة على بكاء الطفلة أمام مدرستها، ثم تنهيدة عميقة وهي تقول بصوتٍ خافت: لا يهم ما يقولونه، فحين أكبرُ سأثبت أني أفضل.. وبدأت تقترب في تردد، اِقترب ديمون مِن الفتاة، تحدثا قليلًا لا أعلم في ماذا تحدثا لكنها ابتسمت بسعادة هذه المرة، وذهبت معه لِمكانٍ ما.. مرّت بضعة أيام..
المكان: المدرسة، في نفس المكان الذي ألقينا فيه مرثاتنا في محيط ذكرياته.. ثم فجأة، نحنُ في الفصل الآن.. ديمون في الخارج يستمع بإنصات.
دخلت المعلمة تتفحص الطلاب تحديدًا نفسِ الفتاة، نظرت لها قليلًا ثم بدأت دون أن تنطق بحرف.. المعلمة كانت تتحدث بشكلٍ طبيعي وحماس في شرحها يدل على أنها تمتلك هبة التدريس، أو بالأدق إيصال المعلومة، مر وقت الشرح، ثم بدأت القصة مع قولها: والآن من يستطيع أن يحل تلك المسألة وقامت بكتابتها على اللوح الخشبي المباشر صوب أعين التلاميذ 3645 ضرب 54؟
قليلٌ مِن الأطفال رفعوا أيديهم، مِن بين تلك الأيادي، كانت يدُ تلك الطفلة، مرفوعة، وبثقة هذه المرة... نظرت لها المعلمة بدهشة لم تذهب عن وجهها منذ رأتها هذا اليوم، تلك المرة كانت نظرة استفهام دونًا عن كل المراتِ التي كانت تنظر فيها سابقًا.. حقًا تمازحني يا رجل.. بعضٌ من الأحداث غير حاضرة.. انتقل المشهد بضعة دقائق على ديمون وهو يدخل الفصل..
حين فتح الباب، لا أعلم إن كنتَ، ستصدقني، لكن أُصيب مقبض الباب ببعض التجاعيد الطفيفة مِن أثار يده وكأنه يضخ غضبه فيه.. اعتذر؛ لأنه لم يطرق الباب مستأذنًا للدخول، فتفحصته المعلمة لتدرك سريعًا أن الواقف أمامها رجلٌ من الطراز الرفيع وهذا يبدوا في هيئته، فلم يكن أمامها إلا أن تتظاهر بالرقي وقبلت اعتذاره سريعًا، بدأ ديمون حديثه أنه هنا ليسأل عن مستوى طالبة معينة، ثم قال تلك الفتاة، وأشار على الفتاة..
بدأت المعلمة بردها الروتيني المعهود أن مستواها جيّد، والكثير من الثناء.. وما كان من ديمون إلا أن أصدر صوتًا من أنفه تعرف من خلاله أنه يحاول معرفة مصدر رائحةِ شيءٍ ما ثم قال: ما هذه الرائحة المقززة!
(جزء من المشهد محذوف من ذاكرته مؤقتًا)
بدأت المعلمة بالغضب والحديث بسرعة وتهكم، ومِن شدة الغضب كانت تخرج الكلمات كلها دفعةً واحدة فيُذَل اللسان جاعل عقل السامعين عاجزًا عن تفسير ما يقال، هو فقط يعلم أنه صراخٌ إنثوي غاضب يحتوي في كينونته على الكثير من الخجل والهراء.. وجراء ذلك الصراخ، أُجتذِب المعلمين والمعلمات فجأة، وكأنهم ذُباب هجموا على المكان متتبعين وجبتهم المفضلة مِن القذارة.
أتى الكثير مِن المدرسين ليسألوا عن سبب الضجيج ومَن يكون هذا الرجل، مَن سمح له بالَدخول حتى أن البعض حاول أن يعتدي عليه بالضرب، في الحقيقة كان فردًا واحدًا، وقد كان معجبًا بالمعلمة فأقتنص الفرصةِ ليُثبت نفسه أمامها لكن ديمون تفادى الضربة وحذره من تكرارها ثانيةً ثم قال: اسمها مدرسة التربية والتعليم، والتربية قبل التعليم، ما انفككتم عن قول هذا، فكيف تسمحون للمربي أن يكون مريضًا نفسيًا..
كاد أحدهم يقاطعه لكن ديمون قاطعه بغضبٍ أخاف الموجودين، لا تقاطعني وأنا أتحدث قبل أن أتسبب في قتلك.. مُعلم ولا يعلم أداب الحديث! لا ألومكم، وكيف أفعل والكثير مِن رجال الدين ليسوا أفضل حالًا منكم..
أما بالنسبةِ للفتاةِ فلن تكمل تعليمها هنا في هذا المكان القذر بالطبع، وهو قذر بوجودكم أنتم، وليس قذرًا بطبيعةِ حاله.. شعر ببعضٍ من الصداع لكنه هدأ سريعًا ثم قال بنبرة هادئة موجهًا حديثه للجميع.. بالنسبةِ لكم، نظفوا أنفسكم، تخلصوا مِن جنود باندورا بداخلكم، قبل أن يأتي المطهر ليتخلص منهم فيتخلص منكم، ولا يدري أحدكم فربما مَن يأتي هو "المسخ" وهذا لن تُحبذوا لقاءه مطلقًا...
أخذ الفتاة في يده، وحاول نفس المعلم الاعتداء عليه، فتجرأ البعض الآخر وحاولوا مشاجرته لكنه لكم أحدهم فأسقط سِنًا أو اثنين لا أذكر، ونظر لهم، ثم قال بنظرةٍ غاضبة وبنفس الوقت نبرة الصوت هادئة ومخيفة: أنا هنا موكل بتنظيف الفوضى، ومعي صلاحيات تسمح لي بحرق هذا المكان بمَن فيه دون أن يوجه لي القانون نظرةً عن طريقِ الخطأ حتى، وأوراق براءتي حاضرة حتى قبل أن أرتكب الجريمة، فهم لن يحاكموا رجلًا مات منذُ عقدين أو أكثر وحين عاد للحياة مات مجددًا.. ثم أخذ الفتاةَ معه للخارج...
حين خرجا قال لها أنتِ تستحقين مكانًا أفضل.. وما إن خرجا مِن باب المدرسة الرئيسي... اللعنة.. بالطبع عرفتم ما قام به، ما هذا؟ هل هو ينظر الآن لثلاثِ بطاقات! حقًا! استعدوا فلربما تحدث مداخلات في الأحداث الآن، وربما لا، لكن كونوا متأهبين على أي حال.
عشوائيات مجددًا.. وعلى الجانب الآخر مِن الطريق مكان راقٍ جدًا، واو هذا كازينو، طريقٌ على اليسار يبين مكانًا آخر يوجد به فتاة.. تعبير الوجه يصعب وصفه حتى ينتهي التحميل.. لذا فلننتظر لحظة حتى ينتهي عقله من صنع سيناريو كامل يربط الأحداث ببعضها...
الآن هذا أفضل، نحنُ الآن في حي عشوائي قديم في فترة لا أعرف كيف أصفها لكني سأحاول الشرح على يمينا يوجد كازينو سأخبركم ما يحدث عنده الآن، وهو في فترة المساء وأمامنا منزل يُنّصفه طريقٌ مؤدٍ إلى حيٍ آخر به تجمع من الفتيات العشرينيات من الطبقة الفوق متوسطة شيئًا ما، وبينهم فتاة مصابة بحروق في وجهها ويبدوا أنها أقل منهم في المستوى الاجتماعي، لكن على ما يبدوا مِن النظرة الأولى أنها أكثر منهم ثراءً على المستوى الأخلاقي وقد كانوا في فترة ما بعد الظهيرة.. يضحكون جميعهم، إلا المشوهة كانت تبتسم فقط!
أمامنا مباشرةً، وكأن المكان يجسد بصيغة أخرى "مرج البحرين يلتقيان"، مكانان متناقضان تمامًا في كل شيء.. لا أعلم ما هذا لكن يبدوا أن هناك شيئًا ما يحدث هنا.. لِمَ ذلك الرجل يضرب تلك الفتاة؟
كان هناكَ رجلٌ يضرب فتاةً بقسوة وهو خارج من الكازينو بينما هي لم تفعل شيئًا سوى أنها بكت، وركبت السيارةَ الفاخرة وحدث أن ديمون ألصق بالسيارة بعد أن صور الرجل الذي ضربها كبسولة تتبع وركب سيارته... في نفس اللحظة وفي نفس ذلك المكان هناك مبنى يراقبه ديمون منذُ زمن، تسكنه عدة فتيات يستمتعن بعملهن بكامل الرضا! لا أعلم كيف أخبركم بالأمر، لكن هذا المبنى يأتي إليه الكثير مِن الزوار مؤخرًا، كثيرٌ مِن الذكور في منزلٍ لا يسكنه إلا النساء، ورجلين يعملان كحرس.. أظنكم فهمتم ما هي طبيعة العمل، ولا تسألوني كيف، لكن هناك نسخة أخرى مِن ديمون الذي ركب سيارته وذهب، تصور الداخل والخارج من المبنى لكنها لم تتحرك(النسخة الثانية من ديمون) وهناك نسخةٍ ثالثة كانت ذاهبة في نفس التوقيت لمجمع الفتيات الواقفات هناك، اِكتشف ديمون فيما بعد أنهم يقذفون عليها سهامًا سامة مِن ذلك القوس المعلق أسفل أنفهم، وهم يضحكون، وكأنهم يمزحون، تحاول الفتاة مجاراتهم في الحديث بابتسامة مزيفة لكن ليست مصطنعة بطريقةٍ احترافية، لذا كانت واضحةً جدًا لديمون...
تم دمج كل الطرق في بعضها في لحظة لتتحول الصورة إلى مريضةٍ ذهنيًا تحمل طفلًا في يدها، وبعض المارة يحاولون الاعتناء بها من باب الشفقة والواجب، اعتناء لحظي، فهم ديمون من الحشد أن هناك مَن استغل علتها بشكلٍ جنسيٍ وهرب، فأخذها ديمون ونقلها لملجئه الخاص الذي انشأه منذ زمن.. حل المساءُ فجأة، ما هذا الظلام الدامس! طلقة تصيب فتاةً تبكي وكلايهما ملطخين بالدماء، القاتل والمقتول، ديمون وإسراء! السقف! فهمت، لقد وضع البطاقات وأغمض عينيه للحظة وهو الآن ينظر للسقف يتذكرُ الماضي، فهلموا معي بالخروج سريعًا حتى لا يتم سجننا هنا مع أحلامه، لا أريد أن أجد نفسي مُطاردًا مِن قِبَل شطيرة برجر بعد كل ما رأيته في حياتي، سيكون الأمر مُهينًا حقًا.. بغض النظر عن أحلام هذا الرجل سأتمنى أن أكون شطيرة برجر فيها، وأي شيء أهون مِن أن أكون ضحية بالداخل.
"مضى الكثير مِن الوقت على تلك الصور، تُرى كم مِن الضحايا سقطوا بين أنياب تلك القاذورات البشرية؟ أتساءل، تَرْكُ الماضي اللعين مهمةٍ أصعب مما كنتُ أتخيل، خصوصًا مع زيادة الأحلام التي تُحملك المسئولية، لا أعلم ماذا فعلوا في حيواتهم ليكونوا رموزًا لتلك الشرور بالنسبةُ لي، لكنّي أعلم جيدًا أن وجودي لن يكون في صالح أحد ولا حتى صالحي."
قام ديمون مِن على سريره ذهب لمكتبه كان هناك دفتر كبير مكتوبٌ عليه "مدرسة الانتحار الثانوية " بخط يده، وبين قوسين (مدرسةٌ بُنيت على ضفاف الحياة) بجوارِ ذلك الدفتر كانت هناك مذكرات يكتب فيها بعضًا مِن الخواطر التي تراوده مِن حينٍ إلى آخر، فكتب فيها تلك الجملة السابقة، فتح دفتره وقرأ نصًا منه ليُذكر نفسه مجددًا لِمَ يحدث هذا معه..
كانت الصفحة التي فتحها تحت عنوان "هاوية الحب" كانت تذكره بأرض المجهول، بطفلٍ مرح، كان مِن النخبة أخلاقيًا في هذا المكان، كان يعرفه الجميع، ويحبونه أيضًا، شخصٌ خلوق، ذكي، متفوق، كان فقير المال لكنه ذو خلق، نسبه ليس الأسوء ماديًا، لكن كانت روحهم في المكان يعيشون في منزل عائلة؛ لذا تجده مزدحمًا دائمًا، كان لهذا المنزل أثرٌ كبير في هذا المكان، البنيان نفسه ذو تاريخ مجيد في طريقة بناءه، كانت مواد البناء تُخلط بعرقهم ودموعهم بدل الماء..
حين عَرض عليهم ديمون شراءه ورُفض، ومع بداية شائعةِ لعنة الانتحار تلك، كان لابد من عقابٍ لهم، لا "لا" هنا نحنُ في عالم لا يقبل الرفض، نسمح فقط بالمفاوضة.. خَالفوا تلك القاعدة؛ لذا كانت عقابهم ورقةٌ على مكتب ابنهم تقول التالي:
دائمًا ما كنتُ أتساءل..
كثيرًا ما سئلتُ نفسي عن الحب، هل جماله يكمن فيه، أم في توقيت الوقوع فيه؟
كنتُ مراهقًا صغيرًا بلغت مِن العُمر ستة عشر حولًا، وهنا أقصد حولًا لأكون دقيق، ليس عامًا ولا سنة، حولًا.. سُنةُ الحياة، فمن البديهي حتى للرضع أن تكون الحياة رمادية، يومٌ أسود، وآخر أبيضً، وهنا أتحدثُ عن أحداثه، وليس عن الدهر نفسه، أنا لست غبيًا لأجعل بعض المتغيرات في إحداثياتي في أحد أبعاد الزمكان الرديئة تتحكم بمشاعري لدرجة أن تجعلني أسب اليوم، أسب الدهر، أكفر..
أخبرك بهذا، لتضع في حسبانك أني لستُ مجرد مراهقٌ أحمق، عقلي أكبر مِن ذلك، أنا أستوعب ما يدور مِن حولي ومجريات الأمور بدأت تنحدر، ولا يبدو أن مؤشرات السعادة سترتفعُ قريبًا..
لي أمدٌ طويلٌ وأنا أنتظر، ولم يحدث شيء.. لذا دعنا نتوغل في صلب الموضوع.. اللعين...
كثيرًا ما قرأت عن الحب، وكم هو جميل، قرأت عن الفلاسفة والمفكرين، البعض وصفه بأنه الفردوس على الأرض، والبعض قال لن أبالغ مثلهم هو قطعةٌ مِن الجنة، حتى أن هناك دراسات أثبتت أنه يقلل مِن النوبات القلبية ويطيل الأعمار مِن منظور علمي، بعيدًا عن البيسيكوفلسفة وحروبها المشينة...
كنتُ أتطلع كثيرًا للوقوع فيه، أبحث عمَن أنتشلها مِن بين هذا العالم القذر لتكون لي، لكن يشاء أن يهاديني القدر وكنتُ لها.. سقطتُ في الحبِ فجأة، وقلتُ سقطتُ ولم أقل أقع.. فالسقوط سريع، مصحوب بارتطام مدوي كلما زادت سرعته.. كما هو الحال في الحب..
كانت جميلةً جدًا روحيًا، لم أنظر لجسدها لأتفحصه يومًا ما، كثيرًا ما كنتُ مهذبًا، كثيرًا ما شهدتها بجواري نخطو على سجادة حمراء في موكبٍ وكأننا أمير وأميرة، وهذا زفافنا، لكن ولعلة ما، لم أفهم لِمَ أو كيف، اختفت، لا أذكر أي مِنَّا مُخطئ بالضبط ولا ما الخطأ؛ تلك أمورٌ تافهة، فالمهم هنا والآن أني أشعر بكثيرٍ مِن الألم، وهذا هو عين القصيد أتت مثلما رحلت، وكأن القدر هنا كان يجيب عن تساؤلاتي بشأن الحب والحزن، النشوة والألم...
أدركتُ أخيرًا أن الأمر لا يتعلق بالحب، الألم لا يتعلق بالفراق، الأمر يتعلق بالتوقيت، حين يخذلك الجميع وتكون وحيدًا لا أحد يعلم بحياتك ولا أحد يأبه، ثم تأتي هي لتغير طلاء حياتك الأسود، وأن تطلي حياتك التي لا لون فيها بألوان ممتلئةٍ بالبهجة، هنا تقع في صلب الحب مباشرةً، كل هذا الكم من الامتنان والعطاء المتبادلُ بيننا، كان بفضل التوقيتِ اللعين..
ومثلما أتت، رحلت فجأة، وفي نفس التوقيت اللعين، وبنفس لعنته، أتتني في وقت حاجة لتُذيقني كيف يكون الحُب، إدمان لمِن يسبح في بحاره في أبهى صوره، وسحبت روحي في ذهابها في وقت نشوة لتذيقني كيف يكون ألم الرحيل في أبشع صوره..."
وفي عزاء الفتى وجد الأبوين وأهل البلدة جملةً تأتي من العدم بصوتٍ مرعب ومخيف تقول:
(صدقوني هو لم يقفز، كل ما في الأمر أن من أحبَها سحبت روحه في ذهابها، وقد خُيل له أنها أسفل ذلك البرج الذي يقف عليه، فألقى بجسده عليها ليُلصق روحه بجسده مجددًا، من أحبها كانت أنا، اللعنة الملقاة على منازلِ هذه البلاد، انتظروا المزيد مني، في كل منزل، كل عائلة، في كل مكان)
قرأ تلك الصفحات القليلة ثم تنهد وهو يقول: إن بقيتُ هنا لحين تصفية جميع حساباتي كما دعوت، فهنيئًا ربما، وربما تعسًا لي، حصلتُ على تذكرةً للخلود الأبدي، وأي خلود؟ جحيمٌ على الأرض! .. ثم عاد لسريره ليتقلب عليه قليلًا قبل أن يغفو.
........................