"هيستريا الخوف"
إنه اليوم الخامس ليّ كَطبيب مُتدرب، والمحاولة الأخيرة ليّ كَما قال الطبيب أحمد المشرف علىٰ عملي، رَغم أني الأول علىٰ دُفعتي في جَميع سنواتي الدراسية، إلا أني أمتلك رَهبة كبيرة تجاه العمل، أَذكر جيدًا إلىٰ تلكَ اللحظة خَوفي الهستيري، لولَا خَوفي مِن الرسوب في الجامعة لما كان تَقديري في كُل السنوات امتياز، ولكن اليوم الأمر مُختلف تمامًا، ظننت أن ذلك الخوف سيُرافقني فقط أيام دراستي، الأمر سيء للغاية، أخاف مِن الإعتراف بخوفي، اكتشفت ذلكَ في يَومي الأول في التدريب، مَعروف عَنيّ أنيّ شخص انطوائي، وحيد للغاية، لا أصدقاء ليّ، حتىٰ علاقتي بعائلتي كانت شبه مَعدومة مِن الحُب والحنان والإهتمام، لطالمَا كانا يَضعون الأحكام علينا إن أخطئنا، فأصبحتُ أَكره الجلوس بالقرب منهم، ولا أُحب النقاش معهم، شيئًا فشيء نَجح الخوف في احتلال رَوحيّ، كُنت أَجلس علىٰ مَكتبي بإنتظار الطبيب المُشرف عليّ، وَجدت طبيبة مُسنة تتجه نحوي، ووجدت ابتسامة رقيقة تَكشف عَن روحها الطيبة، حَدثتني برفقٍ كمَا لَم يَتحدث مَعيّ أحد مِن قبل، وبدأت تُعرفني علىٰ نفسها، ومازلت أذكر اسمها وابتسامتها الرقيقة، اسمها مريم وتبلغ مِن العمر خمسة وستون عامًا، تَعمل طبيبة جراحة، نَفس التخصص الذي أعمل به، سألتني عَن اسمي فلَم تجد ردًا، ظننتها ستمطرني بوابل مِن الشتائم، وتَصفني بأسوأ الصفات، ولكني صُعقت حين كَررت السؤال بطريقة أكثر لُطفًا، بَل كررته حوالي عَشر مرات، ولَن أنسىٰ كلامها في تلكَ اللحظة "يبدو عليكَ الحُزن أيها المُتدرب، أتعلم يَظهر الحُزن بوضوح في أعيننا، وتبدو ملامحنا أكبر بسنوات، وكأننا كَبرنا في العُمر فجأة، قَد بَلغ الحُزن بكَ ذروته، فأصبحت تَنعزل عَن العالم في حُفرةٍ خاصة بكَ، أنتَ تُخطيء بكونكَ انعزلت عَن العالم، مُخطيء بصمتكَ هذا، أنتَ بحاجة لإفراغ كُل يأس تغلغل في روحكَ، تَصرف سريعًا، وتخلص مِن حُزنكَ وخوفكَ قبل أن يقضوا عليكَ"
مَضي أربع أيام مُنذ لقائي بها، فَكرت كثيرًا في كلامها، ولَم أنم مُنذ ليلة أمس، جَلستُ أَعد الخسائر التي جنيتها مِن حُزني، كانت أولىٰ خسارتي هي رفض صداقة تلكَ العجوز التي تَهب الحياة لمَن حولها مِن فرط لُطفها وجمالها، العديد مِن الأصدقاء، خَسرت كُل شخص تَقرب منيّ لكي يَقنعني أني مُخطيء بكوني أنعزل، وأخاف أن أُخطيء، قالوا ليّ مرارًا وتكرارًا أن الجميع يُخطيء، أبي وأمي هُم أكثر خطًأ منيّ، انتحرت فاطمة خوفّا مِن عقابهم، بَل تَمنيت أن أنتحرمثلها وأنزع رأسي مِن جسدي وأنتهي مِن تلكَ الحياة، ورغم الأذي الذي جنيته إلا أني فضلت أن أكون بجانبهم، فبعد خسارة فاطمة أصبحا مُختلفين، لا أعلم ما الذي يجعل الإنسان لا يُغير مِن ذاته إلا عند حودث كارثة ما، لولَا انتحار فاطمة لما تغيرا أمي وأبي، بَل تحدث أبي مَع طبيب نفسي بشأن خوفي المُفرط من الفشل، وها أنا اليوم أجلس وحيدًا، والمكان حولي يضج بالبشر، وإذا وقفت أمامهم لكي أبدأ معهم حوار يهرب الكلام مِن علىٰ لساني، لَمع نَجم في عيني، وتَسربت ابتسامة إلىٰ شفتاي، ها هي الطبيبة مَريم تقترب نحوي، بمباغتة قالت ليّ: ظننتكَ لا تعرف كَيف تبتسم.
كُنت أود أن أرد عليها، وأُخبرها أني مُتعب للغاية، ولكن صَوتي لا يَخرج مِن فمي، يا الله ما الذي يَحدث، كأني طفل لا أجيد الكلام، أخفضت رأسي في الأرض، لا أعلم كيف أمرح ولا ما الرد علىٰ سؤالها المُشاكس، فتولت هي الأمر وتابعت كلامها: حدثني والدك عَن كُل شيء، سيأتي طبيب بَعد قليل للتحدث معكَ، أعلم أنك وحيد بطريقة مُرعبة لدرجة أنكَ لا تعلم كَيف ترد أو تتبادل الحوار مَع أي شخص آخر، أتفهمكَ، وأتفهم كُل ما مررت به، قد سَردت ليّ والدتكَ كُل شيء، فهي كانت صديقتي، أتعلم أنت قوي يا محمد، أظن لو أني عشت مُعانتك لكُنت أخرجت قلبي مِن جسدي لكي أتخلص مِن مُعانتي، ولكنك قوي يا رجل، أثق أنك ستتجاوز حُزن وخوف سنوات.
غادرت مِن أمامي، لا أعلم ما الذي جعلني أبتسم وأنا أنظر نحو أثرها، أدركت أنيّ كُنت بحاجة لشخص يتفهمني، فقط يتفهم حُزني ووحدتي وغموضي وصمتي ويأسي، شخص لا يُقلل مِن مُعانتي، ينعتني دائمًا بالقوي، يُصفق ليّ علىٰ أي إنجاز مهما كان صغيرًا، يُخبرني أن الخطأ لا بُد منه، والأهم مِن ذلكَ أنا بحاجة لشخص يحتضن خوفي، دون أن يتحدث، فقط بحاجة إلىٰ أن يُعانقني أحدهم.
أتىٰ الطبيب، وألقىٰ السلام علي، وعرفني علىٰ نفسه، تذكرت أنه صديق أبي بعدما أخبرني أن اسمه هشام عز، تبعته نحو العيادة الخاصة به، أتىٰ اليوم مخصوص إليّ، جَلس بكُل وقار، ينظر نحوي ويكاد يثقبني بنظراته، تارة ينظر ليّ مِن عويناته وتارة آخرىٰ ينظر ليّ مِن فوقها، وجدته يُخرج عِدة أوراق، وأقلام ووضع أداة إشعال أمامهم وأردف بهدوء وثقة: الخوف إن احتل روح إنسان أصبحت ميتة، يُشبه الخريف إن أتىٰ علىٰ أرض جعلها بورًا، والقلب لو سكنه الحُزن فلا يرحل فالحُزن عنيد يا محمد يرفض الخروج مِن القلوب، وإن احتبستَ كلماتكَ وحُزنكَ ويأسكَ داخلكَ فأنت ميت لا محالة، أعلم أنكَ أمامي، الطبيب محمد زاهر، ولكنك أمامي جسد بلا روح، أُراهنكَ أن روحك تنبض بالحياة، ألمح في عينيكَ نظرة غَرق، مِن الصعب أن تتخلص مِن خوفكَ في يوم وليلة، والأصعب أن أطلب منكَ أن تَحكي ليّ وأنت لا تتحدث عَن مشاعرك مُنذ أن كُنت طفلًا.
وجدته يَقوم مِن علىٰ كرسيه، كدت أقف ولكنه أشار ليّ بالجلوس، وتابع حديثه: أخبرني زاهر أنكَ تُحب الكتابة، وأنه منعكَ منها وعاقبكَ بشدة عندما وجدكَ تكتب الأشعار، واليوم أنا أُعطيكَ أوراق وأقلام وقداحة، أُريد مِنك أن تسرد حُزنكَ وخوفكَ علىٰ الورق، أخرج كُل ما بداخلك، الأوراق حية، تشعر بنا، واحرق كُل الحُزن والخوف الذي أفرغته علىٰ الورق، افعل هذا كُلما شعرت بالخوف.
تَركني وغادر، جلستُ لساعات أتأمل الفراغ، أخاف مِن الكتابة عَن خوفي، أمسكتُ القلم بيد مُرتعشة، وكتبت أكبر مخافي، والتي كانت نتيجة عَن كلام أبي وهي خوفي مِن الفشل، أخاف أن أمسك المشرط وأعمل كطبيب جراحة خوفًا مِن أن أفشل، أخاف أن أقيم علاقة ولو عابرة خوفًا مِن الفشل، كُل ما أشعر به هو الخوف، سيطر علي بطريقة بشعة.
ظللت أكتب لساعات وأُخرج كُل ما في جوفي علىٰ الأوراق، مَرت الساعات، وأنا اتخلص مِن ورقة تلو ورقة، ها أنا أشعر براحة، قد شكوت حُزني للورق، وارتحت قليلًا، خَرجتُ إلىٰ مكتبي، ابتسمت حينما وجدت الطبيبة مريم تجلس بإنتظاري، تحدثت برفق: أتيت لكي أشرح لكَ كَيف تتعامل مَع الطبيب في غُرفة العمليات.
بدون شعور مِني: هَل تسمحين ليّ بأن أُناديكِ أُمي.
لَن أُعطيها فرصة لترد عليّ، وثرثرت لأول مرة مُنذ أن كُنت طفل فتابعت: شعرت أنكِ أمي، رُبما لحنانكِ، وللحب الذي تعطفين عليّ به، لَن أكون بحاجة إلىٰ أي شيء، سوىٰ كلمة واحدة وقولتيها ليّ، أني قوي وسأتجاوز كُل خوفي، كُنت بحاجة لثقة أحدهم فيّ، وكانت ثقتكِ، أعدكِ لَن أُخيب ظنكِ، مازال هُناك في داخلي طيف خوف ولكني سأقضي عليه.
عانقتني بشدة، بكيت بين ذراعيها، الآن حصلت علىٰ ما أُريد، خَضع خوفي لها وتبدل أمان، لسنا بحاجة إلىٰ شيء ثمين، فقط ثقة مِن أحدهم أننا قادرون علىٰ الإنجاز، وعناق يحتوي خوفنا فنهدأ كما يهدأ الطفل بين ذراعي والدته.
هايدي عطية.